للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شرب عند خمار ونام، ودخل جماعة فسألوا عنه، فعرفوا خبره، فشربوا وناموا وانتبه، فرآهم، فسأل عنهم، فعرف أنهم مصرّعون من الخمر، فشرب، حتى سكر ونام، وانتبهوا فصنعوا صنيعه، وأقاموا جميعا كذلك عشرة أيام، يفيقون ثم يشربون وينامون، وروى قصته معهم فى بعض شعره. إنه يعيش للخمر ويعيش بالخمر، يصف سقاتها ودنانها وأباريقها وزقاقها مثل قوله:

يمجّ سلافا من زقاق كأنها ... شيوخ بنى حام تحنّت ظهورها

وقوله:

وإذا صبّت لشرب خلتها ... حبشيّا قطعت منه الرّكب

ونراه يصف القيان اللائى يسمعهن فى أثناء شربها، كما يصف من تصرعهم وصفا فيه براعة، فقد أخلص لها نفسه، ووجد فيها طمأنيته، بل فرحته ومسرته حتى ليتمنى أن يضمها إلى صدره فى قبره، فلا تزايله حيّا ولا ميتا، يقول:

اجعلوا-إن متّ يوما-كفنى ... ورق الكرم وقبرى معصره

وادفنونى وادفنوا الرّاح معى ... واجعلوا الأقداح حول المقبره

وعلى هذا النحو مضى أبو الهندى فى سكة الخسران إلى الأنفاس الأخيرة من حياته، يصدح بخمرياته، ويتخذ الخمر وحى إلهامه.

[٥ - شعراء الطبيعة]

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الطبيعة دائما كانت ملهما بالغ التأثير فى نفسية الشاعر العربى، وقد مضى أسلافه فى الجاهلية يصدرون عنها فى أشعارهم، فلم يتركوا كبيرة ولا صغيرة فى صمتها ولا فى حركتها دون أن يرسموها فى أشعارهم، فهم يصورون فلواتها بكثبانها ورمالها وغدرانها وغيثها وسيولها وخصبها وجد بها ونباتاتها وأشجارها وحيوانها وطيرها وزواحفها وهواجرها وما قد ينزل ببعض مرتفعاتها وأطرافها من البرد وقوارصه.

<<  <  ج: ص:  >  >>