ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء
وتلك هى الموضوعات الأساسية التى تنظم فى سلك القصيدة الجاهلية، فالشاعر يبدؤها بالتشبيب أو النسيب بالأطلال والديار، ويصف فى أثناء ذلك حبه، ثم يصف رحلته فى الصحراء، وهى أول ما يقدمه للمرأة من ضروب جرأته، وحينئذ يصف ناقته أو فرسه، وقد يؤخرهما إلى نهاية القصيدة، ويقدم عليهما غرضه من الحماسة أو الهجاء أو الرثاء أو المديح، مفتنّا فى أثناء ذلك فى وصف ما يقع تحت عينه، وناثرا حكمه وتجاربه.
[٤ - الخصائص المعنوية]
لعل أول ما يلاحظ على معانى الشاعر الجاهلى أنها معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق فى الخيال سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله فى الطبيعة، فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التى قد تخرج به عن الحدود المعقولة.
ومرجع ذلك فى رأينا إلى أنه لم يكن يفرض إرادته الفنية على الأحاسيس والأشياء بل كان يحاول نقلها إلى لوحاته نقلا أمينا، يبقى فيه على صورها الحقيقية دون أن يدخل عليها تعديلا من شأنه أن يمسّ جواهرها. ومن أجل ذلك كان شعره وثيقة دقيقة لمن يريد أن يعرف حياته وبيئته برملها ووديانها ومنعرجاتها ومراعيها وسباعها وحيوانها وزواحفها وطيرها. وعرف القدماء ذلك فكلما تحدثوا عن عادات الجاهليين وألوان حياتهم استشهدوا بأشعارهم. وحينما كتب الجاحظ كتاب الحيوان وجد فى هذه الأشعار مادة لا تكاد تنفد فى وصفه ووصف طباعه وكل ما يتصل به من سمات ومشخصات. ومعنى ذلك أن الشاعر الجاهلى لم يغتصب الحيوان لنفسه، فيسكب عليه من خياله ما يحيله عن حقيقته، ونستطيع أن نلاحظ ذلك فى وصفه