للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على الجدث الغربىّ من آل وائل ... سلام وبرّ، ما أبرّ وأكرما (١)

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور كيف كان ابن كناسة يصفى قلبه وعقله للزهد وكيف كان يمزجه بنفسه، وكيف كان يعيش له وبه مؤمنا بأنه الغاية العليا التى ينبغى أن يطمح إليها الإنسان ويقصر عليها حياته، حتى يفوز برضوان ربه، وقد لبّى نداءه لسنة سبع ومائتين للهجرة.

محمود (٢) الوراق

ليس بين أيدينا أخبار كثيرة توضح حياة محمود، ويقال إنه كان نخاسا ببغداد يبيع الرقيق، ويبدو أنه كان فى فاتحة حياته يأخذ بحظ من اللهو، ثم كفّ نفسه وردعها، وأخلص وجهه لربه. وفى أخباره ما يدل على حسن عشرته لجواريه وأنهن كن لا يؤثرن عليه أحدا، وكانت جاريته سكن من بينهن من أحسن قريناتها وجها، وكانت تتقن الغناء وتنظم الشعر البارع، فملكت عليه لبّه وقلبه، وحدث أن رقّت حاله واختلت حياته، فرأى أن يبيعها حتى يوفّر لها خفض العيش عند غيره، وتنافس الناس فى اقتنائها، وعرض فيها أحد الطاهريين مائة ألف درهم، فمال محمود إلى بيعها، ولما عرض عليها ذلك بكت وذرفت الدموع، وقالت له إنى أختار عيشة الفقر معك، فرقّ لها وحرّرها وأصدقها داره، وكانت كل ما يملك.

ومن طريف ما يروى من أخبار جواريه اللائى كن ينعمن بعطفه أن المتوكل عرض له فى إحداهن من عشرة آلاف دينار، فأبى، فلما توفى اشتراها فى ميراثه بخمسة آلاف دينار. وذكر لها المتوكل ما كان من أمر محمود معه، فقالت: يا أمير المؤمنين إذا كانت الخلفاء تتربّص بلذاتها المواريث فسنشترى بأرخص مما اشتريت.

ولعل العصر العباسى الأول لم يعرف شاعرا أكثر من الحديث عن الزهد واعظا مذكرا كما أكثر محمود، وهو يتخذ لذلك مواقف متعددة، منها موقف وجوب الطاعة لله ولأوامره ونواهيه، فالمسلم الصحيح ينبغى أن لا يقترف إثما ولا يرتكب معصية. وإلا أوثقته ذنوبه ولم يجد من يخلصه من عذاب الله ووعيده، وحرى


(١) الجدث: القبر.
(٢) انظر فى محمود وأخباره وأشعاره تاريخ بغداد ١٣/ ٨٧ وطبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٦٧، ٤٢٢ والبيان والتبيين ٣/ ١٩٧ وما بعدها والعقد الفريد ١/ ٢٢٨، ٢/ ٢٨٥، ٣/ ١٧٩، ٢٠٦، ٢٠٩، ٢١٥ وما بعدها، ٦/ ٤٠٤ وفوات الوفيات ٢/ ٢٨٥ وعيون الأخبار ٣/ ٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>