ممّا نقلناه من رحلة العبدرى وما سنذكر من أقوال أهل برقة فيما بعد يتضح لك أن لهجة هؤلاء الأعراب لم تتغير وأنها إلى الآن قريبة جدا من أمها الفصحى» -ويستدل على ذلك ببعض الأشعار الشعبية لأهل برقة بعد الاحتلال الإيطالى لوطنهم، ملاحظا أن اللهجة الليبية الحديثة عربية خالصة وإن اعتراها ما اعترى سائر اللهجات العربية من إهمال الإعراب. وأضاف الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب إلى هذه الملاحظات فى الجزء الأول من كتابه الورقات ملاحظة مهمة فى الجزء الثالث منه، إذ قال إن استخدام نون النسوة مع الأفعال فى مثل:
«يأكلن-يشربن-يغزلن» منتشر فى كلام الأعراب بنواحى طرابلس وبرقة، وهى مبثوثة فى أقوالهم الشعرية. ويبدو أن أهل ليبيا ظلوا يحافظون بقوة على الفصحى-بعد الهجرة الأعرابية إلى ديارهم-قرونا متطاولة ربما امتدت حقبا بعد شهادة العبدرى فى أواخر القرن السابع الهجرى.
٢ - نشاط (١) الشّعر والشعراء
لعل أول ما أنشد من الشعر فى ليبيا كان على لسان الشعراء الوافدين عليها مع الجند الفاتح لها وللبلاد المغربية، ونرمز لهم بالشاعر الهذلى المشهور أبى ذؤيب، فقد خرج مع عبد الله بن الزبير فى جند عبد الله بن سعد بن أبى سرح إلى فتح إفريقيا سنة ست وعشرين وأعجب بشجاعة ابن الزبير حين فتك فى موقعة ضارية بوالى البيزنطيين: جريجوريوس وتسميه العرب جرجير، ومن قوله فى الإشادة ببطولته:
وصاحب صدق كسيد الضّرا ... ء ينهض فى الغزو نهضا نجيحا
والسّيد: الذئب، والضّراء: شجر يتوارى فيه وهو أفتك الذئاب فى الجزيرة العربية. وكثير من أمثال أبى ذؤيب الشاعر النابه استقروا فى برقة وطرابلس ينشدون أشعارهم وينشرون الإسلام ويأخذ البربر عنهم القرآن الكريم والعربية. غير أنه لم يكن يهمهم-فيما يبدو-أن تحمل عنهم أشعارهم أو أن تذكر أخبارهم، فهم من عامة العرب المسلمين، وهم آخر من يفكر فى هذا الشرف. وممن نزل ليبيا من الشعراء النابهين دعبل الشاعر العباسى، نزلها فى العقد الثالث
(١) انظر الأغانى فى أبى ذؤيب ودعبل والحلة السيراء فى عبد الله بن محمد الأغلبى وابن سوادة وخليل بن إسحاق وإنباه الرواة فى المكفوف وخلوف والودانى والخريدة (قسم شعراء مصر) فى ابن البرقى.