ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور بلاغة أحمد بن يوسف وكيف أنها كانت تعتمد على غزارة فى الفكر وبراعة فى الأداء وهى براعة يتقدم بها من سبقوه من كتّاب الدواوين فى القرن الثانى الهجرى تقدما واسعا وخاصة فى الرسائل السياسية، إذ تأنق فى ألفاظها وعباراتها تأنقا جعله يتخللها بالسجع، فإن لم يواته تخلّلها بالازدواج والترادف الصوتى، وبذلك أسبغ عليها ضروبا من الجمال الموسيقى لم تكن مألوفة قبله إلا فى بعض الرسائل الإخوانية وبعض التوقيعات، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل السابق عند ابن سيابة وجعفر بن يحيى البرمكى. ولا ننسى سهل بن هرون، فقد كان يعنى مثله بالازدواج والترادف والموسيقى غير أن ابن يوسف هو الذى أعدّ هذا الأسلوب وما طوى فيه من سجع ليشيع فى الكتابات الديوانية.
٤ - عمرو (١) بن مسعدة
كان جده الأعلى صول أحد ملوك جرجان، وكان من الترك الذين اعتنقوا المجوسية وتشبهوا بالفرس، وقد اعتنق الإسلام فى زمن بنى أمية، ودخل ابنه سعيد فى الدعوة العباسية، فلما نجحت صارت له منزلة فى الدولة إذ كان من دعاتها النابهين، ولم يلبث خالد البرمكى أن استخلص ابنه مسعدة للكتابة بين يديه فى وزارته للسفاح والمنصور، وظل يعمل فى دواوين الأخير حتى قلده وزيره أبو أيوب الموريانى رياسة ديوان الرسائل، ويولد له ابنه عمرو، فيعنى بتأديبه حتى يصلح للكتابة فى دواوين الدولة. ويظهر أنه مضى يتثقف ثقافة عربية وإسلامية واسعة، حتى غدا لسنا فصيحا، بل لقد غدا شاعرا ينظم الشعر، كما غدا يحسن شئون الفقه مما يتصل بالخراج، ووقف على العلوم الرياضية، وما يتصل بها من الحساب مما كان يشقفه الكتاب، كما وقف على آداب الفرس وكتاباتهم فى السياسة والأخلاق وتدبير الحكم، وربما وقف أيضا على شئ من
(١) انظر فى ترجمة عمرو بن مسعدة معجم الأدباء ١٩/ ١٢٧ ووفيات الأعيان لابن خلكان ١/ ٤٩٢ وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى ١٢/ ٢٠٣ وزهر الآداب ٣/ ٢٤٩