استقر فى أذهان كثيرين من الصفرية-وخاصة صفرية مكناسة-بعد إخفاق حملتى عكاشة وعبد الواحد على القيروان وكثرة من قتل فيهما من الصفرية حتى لقد بلغوا أكثر من مائة ألف صفرى أنه ينبغى أن يبحثوا لهم عن مدينة نائية يصعب وصول الجيوش القيروانية العباسية إليها يتخذونها مأوى لهم ويعيشون فيها شبه منعزلين عن مسالك تلك الجيوش، واختاروا سجلماسة لذلك سنة ١٤٠ هـ/٧٥٧ م لأنها تقع فى أقصى مكان بالجنوب الشرقى من المغرب الأقصى على نهر زيز والطرق المؤدية إليها شديدة الوعورة، وتكتنفها متاهات من القفار. وكان الذى اختارها زعيم من زعماء الصفرية ممن أسهموا فى حروب ميسرة وخالد بن يزيد إمامى الصفرية، وهو أبو القاسم سمكو بن واسول الملقب بمدرار زعيم صفرية مكناسة، وكان من حملة العلم وارتحل فى سبيله إلى المدينة وإلى تونس، وفيها تتلمذ على عكرمة المفسر مولى ابن عباس وتلميذه، وكان يعتنق دعوة الصفرية فحملها عنه تلميذه سمكو، ورجع إلى قومه فى مكناسة يبشر بها ويدعوهم إليها، فاستجاب له كثيرون وشاركوا فى حروب ميسرة وخالد بن يزيد كما أسلفنا. وكان حصيفا، وكان قد درس مذهب الصفرية أو عقيدتهم، ورأى من أسسها الأخذ بالتقية وأن من حق الصفرى أن يعلن أنه مع الجماعة فى الظاهر ويبطن الدعوة الصفرية، وكان لا يعد دار المسلمين أو دار الجماعة دار حرب، بل يتعايش معهم، والصفرى لذلك من حقه القعود عن الحرب وأن لا يحمل السلاح فى وجه المسلمين، وهو ما آمن به، وكأنه كره الحروب التى خاضها ميسرة وخالد بن يزيد ضد جيوش القيروان وأن يسلّ المسلم السيف فى وجه أخيه المسلم، لذلك رأى أن ينحاز عن معاركهما الطاحنة إلى سجلماسة وتبعته كثرة من صفرية قومه أهل مكناسة، وجاءته عناصر صفرية مختلفة من صنهاجة وزناتة وزنوج السودان من سكان الفيافى والصحراء بين سجلماسة وغانة، وسرعان ما أصبحت مدينة كبيرة.
وكان سمكو الملقب بمدرار صالحا تقيا متواضعا، فرأى أن يكون أول إمام فى هذه الدولة سودانيا من رءوس الخوارج، وهو عيسى بن يزيد، وارتضته الصفرية وبايعته، فقام بأمر سجلماسة وشق القنوات واستكثر من غرس النخيل والزروع. واتسع ثراء أهل سجلماسة لكثرة ما كانوا يتبادلونه-ويتجرون فيه-من السلع مع السودان. وظلت الصفرية-مع السنين-تنقم على عيسى بن يزيد-بعض تصرفاته، حتى إذا كانت سنة ١٥٥ هـ/٧٧١ م
(١) انظر فى دولة بنى مدرار بسجلماسة كتاب المغرب فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب (طبع باريس) للبكرى ص ١٤٨ وما بعدها والبيان المغرب لابن عذارى (طبع بيروت) ص ٢١٥ وما بعدها وصفة المغرب للإدريسى (طبع ليدن) ص ٦٠ وفى مواضع مختلفة وأعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب (طبع الدار البيضاء) ٣/ ١٣٧ وما بعدها وتاريخ ابن خلدون (طبعة بولاق) ٦/ ١٣٠ وما بعدها.