ألا إنه ما فارق الإلف دهره ... ومالى إلى وصل الحبيب وصول
وهو يوازن بينه وبين قمرى يتغنى سحرا بأشواق ما ينى يرددها فى صحف الرياض ويمليها مخيّلا كأنه يشكو من آلام بين مبرّح ولا بين ولا فراق، فحبيبته بجانبه لم تفارقه ليلة، ولا أصابه لفراقها ضنّى ونحول. ويقسم له بالهوى لو ذاق أو جاعه وتباريحه ما ازدان تليله أو عنقه بطوق، ويقول له إنه لم يفارق أليفته يوما بينما هو يتلظى بنار الفراق والهجران. وكان يعرف الفارسية وقد ترجم عنها قوله:
ورق الغصون دفاتر مشحونة ... مملوءة بأدلّة التوحيد
ولعل فيما قدمنا ما يدل على روعة غزلياته، وهو فيها دائما مشوق يتمنى الوصل وأن تذوب حجب الهجران. وما زال يردد هذا المعنى وما يتصل به، حتى لبى نداء ربه بدمشق لسنة ١٠٢٤ للهجرة.
[٢ - شعراء الفخر والهجاء]
موضوعا الفخر والهجاء من موضوعات الشعر القديمة منذ الجاهلية، ومعروف أن شعر الفخر والحماسة الحربية غلب عليها قديما، حتى سمى أبو تمام مختاراته الشعرية الكبرى باسم الحماسة تغليبا لهذا الموضوع على موضوعات الشعر الأخرى عند العرب فى جاهليتهم وإسلامهم، وكان يزحمه من قديم شعر الهجاء، إذ كانوا يفخرون بانتصاراتهم الحربية ويهجون خصومهم بهزائمهم، يستثيرون بذلك قبائلهم لتخوض معارك جديدة أشد فتكا فى الأعداء. وكانت معارك العرب-على مر السنين-بينهم وبين الأمم وقودا مستمرّا للفخر والهجاء، فلم تخمد لهما نار، بل لقد اشتد أوارها كلما تقدمنا مع الزمن، وكان شعراء الشام يشاركون فى تلك المعارك بسهام شعرهم النارية. ونكتفى بذكر شاعرين كبيرين قريبين من هذا العصر هما أبو تمام والبحترى، وكانا أشبه بمكاتبين حربيين، فهما يحضران المعارك مع ثوار إيران ومع الروم فى آسيا الصغرى، ويصوران كيف احتدمت الحرب وبلاء الجيوش العباسية وقوادها فيها وما أنزلوا بالأعداء من محق لا يكاد يبقى منهم باقية. وبجانب هذا الفخر والهجاء الحربى كان هناك الفخر والهجاء السلميان اللذان ينظمهما الشعراء لبيان ما يشتملون عليه هم وأقوامهم، أو هم أنفسهم، من مثالية خلقية رفيعة وما يتصف به أعداؤهم