يدور كدود القزّ ينسج دائما ... ويهلك غمّا وسط ما هو ناسجه
وعلى هذا النحو لا نزال نقرأ عند أبى الفتح البستى حكما طريفة. مما يدل على بعد نظره واتساع خبرته. وكان يخليها من الجناس عادة، حتى تخفّ على ألسنة الناس وتدور فى أفواههم، ومن الحق أنه كان شاعرا خصب القريحة، مما جعل شعره يحفل بمعان وصيغ بديعة.
[٥ - شعراء شعبيون]
لا يستطيع أحد أن يزعم أن الشعر العربى انفصل فى عصر من عصوره عن شعوبه، إذ كان دائما ترجمانا عن عواطفها ومشاعرها، حتى فى المديح، فإن الشعراء كانوا يمدحون الحكام بالمثل العليا التى تتطلبها شعوبهم فيهم، ولم يتركوا لهم عملا قدّموه لشعوبهم دون أن يحمدوه لهم حمدا كثير، سواء أكان فى الداخل مما يتصل بنشر الأمن والعدل أم فى الخارج مما يتصل بانتصاراتهم على أعداء شعوبهم وخصومها. وكثرة الشعراء كانت من عامة الشعوب العربية، فكان طبيعيا أن تتضح فى أشعارهم روحها ومشاعرها وكل ما يجرى فى خواطرها. وقد تحدثنا عن أغراض تتضح صلتها القوية بالشعوب مثل الزهد الذى يلتحم مباشرة بالجماعة الكبيرة فيها، وكانت تعيش كادحة كدحا مريرا، لكى تثرى وتنعم بثمار عملها جماعة محدودة من الحكام وكبار التجار والإقطاعيين. ولم يكن أمام هذه الجماعة الكبيرة إلا الانصراف عن متاع الحياة وطيّباتها، وهى لذلك تقبل على شعر الزهد، ويصبح هذا الشعر غذاءها. ولا شك فى أن شعبية هذا الشعر هى التى جعلته يسهل فى لغته سهولة شديدة، لأن العامة لا تحب الإغراب اللغوى، بل تحب الأساليب السهلة المبسّطة الخفيفة التى تفهمها بمجرد أن تقرع أسماعها. وبذلك كان الزهد طوال هذا العصر شعبيا فى لغته الشعرية، وكان مما أكد شعبيته ذيوعه على ألسنة الزهاد والعباد والمتصوفة والقصّاص والفقهاء وأصحاب الحديث، فكان الناس يسمعونه فى كل مكان بالإضافة إلى ما كانوا يسمعون منه على ألسنة الشعراء، وحتى شعر المجون مع أنه خاص بطبقة معينة من الشعب ونقصد أصحاب الثراء واللهو نجد فيه أو بعبارة أدق فى بعض منه آثار الشعبية، غير أنها هذه المرة لا تأتى من سهولة الألفاظ وإنما تأتى مما كان يقترن به أحيانا من دعابة، مما يجعله أقرب إلى النوادر المضحكة، وتأتى أيضا من استظهار طائفة من أصحابه للكلمات الفارسية التى تشيع على ألسنة العامة، ويلقانا منهم كثيرون فى اليتيمة وتتمتها وفى دمية القصر