بصره، وأصبح ضحاه مثل دجاه، وأظلمت الدنيا فى عينيه، وأصبح كل شئ قطعا من الظلام بعضها فوق بعض، وعبثا يرى نور محبوبته فقد أرخى الظلام من حوله سدوله ولم يعد هناك أمل فى انفراجه، وهو يئنّ وينوح نواحا لا ينقطع كما يقول ابن خلكان. ولعل فى ذلك كله ما يصور كيف أن غزله الوجدانى كان خليقا أن تتداوله طائفة الرفاعية الصوفية، لتعبر به عما يختلج فى حنايا صدورها وقلوبها من الحب الإلهى وكل ما يطوى فيه من وجد ولهفة ولوعة وظمأ لا ينتهى إلى رؤية الذات العلية، وكأنما مسته-كما تصوّر شيوخهم- بركة أنفاسهم، أو كما نقول كأنما مسته أنفاس وجدهم الربانى الحار، مما جعلهم يحفظون شعره ويتناشدونه، وينشده معهم الوعاظ فى وعظهم. ويروى ابن خلكان أن الشاعر مرّ يوما على ابن الجوزى وهو يعظ الناس وهم مزدحمون فى مجلسه، وكان عجبه شديدا حين سمعه يستشهد على بعض إشاراته ببيت من شعره منوها به.
الحاجرى (١)
هو أبو الفضل حسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمار تكين بن طاشتكين الإربلى المعروف بلقبه الحاجرى نسبة إلى الحاجر بلدة كانت بالحجاز أكثر من ذكرها فى شعره، فنسب إليها. وهو إربلى الأصل والمولد والمنشأ، ويقول ابن خلكان إنه كان صاحبه، ومع ذلك لا يذكر لنا شيئا عن زمن مولده ولا عن أسرته ونشأته، وكل ما يقول إنه جندى من أولاد الأجناد الأتراك، ويبدو أنه كان على شئ من اليسار، إذ لا نراه فى ديوانه مشغولا بممدوحين مختلفين يهديهم أشعاره، إلا ما كان من مدحة يستهل بها ديوانه مدح بها الأمير ركن الدين أحمد بن الأمير شهاب الدين قراطايا بإربل، ولعله أراد أن يستلّ من نفسه ضغينة عليه، إذ جاء فى مقدمة مدحته إنه كان السبب فى مقتله، ويقول ابن خلكان إنه خرج من إربل فى سنة ٦٢٦ بينما كان الحاجرى معتقلا فى قلعتها لأمر يطول شرحه ولعل الأمير السالف هو الذى دبّر له هذا الاعتقال، وله فى ذلك أشعار يشكو فيها من حبسه مثل قوله:
قيد أكابده وسجن ضيّق ... يا ربّ شاب من الهموم المفرق
ويذكر ابن خلكان أنه بلغه بعد ذلك خروجه من الاعتقال وأنه اتصل بخدمة الملك
(١) انظر فى ترجمة الحاجرى ابن خلكان ٣/ ٥٠١ والنجوم الزاهرة ٦/ ٢٩٠ والشذرات ٥/ ١٥٦ وديوانه طبع طبعة سقيمة بالقاهرة سنة ١٣٠٥ وذكر بروكلمان (٥/ ١٧) منه مخطوطات كثيرة، وهو حرى بأن يحقق تحقيقا علميا.