للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المعظم مظفر الدين كوكبورىّ والى إربل من قبل صلاح الدين منذ سنة ٥٨٦ وتقدم عنده وتزيّا بزىّ الصوفية. وتوفى مظفر الدين سنة ٦٣٠ فغادر الحاجرى إربل، وكأنه كان لا يزال يخشى بأس غريمه المذكور آنفا، غير أنه سرعان ما عاد إليها حين صارت فى مملكة الخليفة المستنصر بالله وتولاها عنه الأمير شمس الدين أبو الفضائل باتكين، فأقام مدة قصيرة وهو لا يدرى أن وراءه من يقصده واتفق أن خرج يوما من بيته قبل الظهيرة، فوثب عليه شخص وضربه بسكين ضربة قاتلة توفى على إثرها فى شوال سنة ٦٣٢ ويقدّر ابن خلّكان عمره بخمسين سنة. ويقول: «له ديوان شعر تغلب عليه الرقة، وفيه معان جيدة، وهو مشتمل على الشعر والدوبيت والمواليا، وقد أحسن فيها جميعا مع أنه قلّ من يجيد فى مجموع هذه الثلاثة، بل من غلب عليه واحد منها قصّر فى الباقى، وله أيضا «كان وكان» واتفقت له فيه مقاصد حسان وهو شعر عامى، سنعرض له فى غير هذا الموضع.

وأول ما نقرأ فى ديوانه مطلع مدحته لابن قراطايا، وفيه يقول:

ما للدموع تسيل سيل الوادى ... أحدا بركب العامريّة حادى

نعم استقلّوا ظاعنين وخلّفوا ... نارا لها فى القلب قدح زناد (١)

ما كان أطيب للوداع عناقنا ... لو لم يكن منا عناق بعاد

يا سائق الوجناء غير مقصّر ... يطوى المفاوز من ربى ووهاد (٢)

مالى إليك سوى التحية حاجة ... تلقى سعاد بها ودار سعاد

عرّج برامة إنّ رامة منتهى ... أملى وغاية بغيتى ومرادى (٣)

يأيّها الرّشأ الذى بلحاظه ... دعج يصول به على الآساد (٤)

الله فى كبدى التى أحرقتها ... عبثا بجمرة خدّك الوقّاد

ويلى هذا الاستهلال غزل من هذا الطراز يكاد يستنفد الديوان جميعه بما فيه من مخمسات ودوبيتات أو رباعيات، وواضح أنه مرحلة جديدة للغزل بالبدويات الذى قرأناه عند المتنبى والشريف الرضى ومهيار، وكأن الحاجرى استوعب غزلهم وتمثله تمثلا نادرا، فإذا هو ينفذ مثل ابن المعلم إلى هذا الغزل الجديد الذى سميناه بحق شعرا وجدانيا، شعرا ينساب من معين ثرّ لا يزال يتدفق حارا دون أى تكلف أو تصنع. وإن نار الحب لتتقد فى قلبه وتسيل دموعه أنهارا فقد فارقته صاحبته إلى رامة، وهو لا يملك إلا أن يرسل إليها


(١) قدح الزناد: استخراج النار منه بضرب حجرين.
(٢) الوجناء: الناقة الشديدة.
(٣) رامة: موضع بالبادية.
(٤) الدعج: اشتداد السواد والبياض فى العين.

<<  <  ج: ص:  >  >>