كان العصر العباسى الأول عصرا خطيرا حقا فى تطور النثر العربى، إذ تحولت إليه الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وكل معارف الشعوب التى أظلتها الدولة العباسية، بحيث تدخّل جميع ذلك فى تركيبه وائتلف مع نسيجه، وتولد منه جديد تلو جديد.
وتم هذا التحول-كما مرّ بنا فى الفصل الثالث-عن طريقين: طريق النقل والترجمة، وهو طريق عنى به الخلفاء العباسيون-ووزراؤهم وخاصة البرامكة- إلى أبعد حد ممكن، كما عنى به أفراد مختلفون مثل ابن المقفع آل نوبخت.
وطريق ثان لعله كان أوسع مجرى، هو تعرب شعوب الشرق الاوسط وانتقالهم إلى العربية بكل ما ورثوه وثقفوه من فنون المعرفة. ولم ينتقلوا بمعارفهم فقط، بل انتقلوا أيضا بعاداتهم وتقاليدهم وطرائقهم فى المعيشة مما هيأ لتفاعل واسع بين العرب والشعوب المستعربة، بل مما هيأ لظهور المدنية العربية فى تلك الأقاليم التى دانت بالإسلام، وهى مدنية قوامها مزيج من التعاليم الإسلامية الروحية والخلقية ومن الأدب العربى بشعره ونثره ومن صور الحياة العقلية والمادية فى المحيط العربى الجديد.
وعلى سنن من طبائع الحياة أخذ النثر يتطور تطورا واسعا، إذ حمل خلاصة هذه المدنية وملئت أوانيه بشرابها الجديد الذى اختلفت ألوانه باختلاف ينابيعه الكثيرة، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع. وقد أظهر النثر العربى مرونة واسعة إذ استطاع أن يحتوى كل هذه الينابيع وأن يتسع لها صدره، بل لقد غدا كمجرى نهر كبير ترفده جداول من ثقافات متنوعة تنوعا لا يكاد يحدّ أو يحصى،