وكل جدول يذوب فى النهر بمجرد دخوله فيه، إذ يتحول عربيّا، ويتحول معه كل ما يحمل من سيول المعارف، حتى الفلسفة والعلوم فإنهما لم يستعصيا على هذا التحول، إذ سرعان ما صبّا فى قوالب عربية ملائمة.
وكان ذلك إيذانا بتعدد شعب النثر العربى وفروعه، فقد أصبح فيه النثر العلمى والنثر الفلسفى، وأصبح فيه أيضا النثر التاريخى، على شاكلة ما كان عند الأمم القديمة، وحتى النثر الأدبى الخالص أخذ يتأثر بملكات اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الفارسية على نحو ما هو معروف عن ابن المقفع وترجمته عن هذه اللغة لقصص كليلة ودمنة الهندى الأصل ونقله لكثير من آداب الفرس الاجتماعية والأخلاقية ونظمهم فى السياسة والحكم، مما كان له أعمق الأثر فى الرسائل الديوانية وفى نشوء الرسائل الأدبية التى تعنى بالكتابة فى موضوع محدود، مما نسميه اليوم باسم المقالات، إذ يعالج الكاتب موضوعا فى طائفة من الصحف.
ولم يقف النثر العربى عند حمل المضامين العلمية والفلسفية الجديدة التى جاءته من لدن الأجانب، فقد انبرت العبقرية العربية فى هذا العصر تضع العلوم اللغوية والشرعية، وهو وضع كان واسع الأثر فى تمهيد اللغة وتيسيرها وجعلها لغة علمية محدّدة الألفاظ والاصطلاحات التى ترسم المعانى رسما دقيقا. وقد مضت هذه اللغة تركض ركضا لا فى مجال العلوم الإسلامية والعربية الخالصة فحسب، بل أيضا فى مجال العلوم الطبيعية والكونية، فإذا لنا علماء كيماويون ورياضيون مختلفون، لهم مصنفاتهم ومباحثهم المبتكرة.
وعلى نحو ما أثمرت العقلية العربية فى المجال العلمى أثمرت فى المجال الفلسفى وخاصة فى بيئات المتكلمين، إذ مدّوا مباحثهم فى العقائد الإيمانية إلى كل شعب الفلسفة، واستطاعوا-وخاصة المعتزلة منهم-بأنظارهم العقلية أن يدلوا فى جميع هذه الشعب بآراء جديدة طريفة على نحو ما يفصّل ذلك الشهرستانى فى كتابه «الملل والنحل» حين يعرض لمذاهب المعتزلة المختلفة وما يقولونه فى الأجسام والأعراض والجواهر والحركة والسكون والكمون والتولد والطفرة والوجود والعدم والروح والنفس والعقل وإدراك الحواس والكم والكيف والألوان والخير والشر.
وكل ذلك كان له آثار بعيدة فى النثر العربى، لا من حيث الألفاظ