والمصطلحات الجديدة فحسب، بل أيضا من حيث ذخائر الفكر الفلسفى اليونانى والعربى التى التقت فى أوعيته وأوانيه والتى جعلته يعرف صورا من تحليل الأفكار وتركيبها لا عهد له بها، كما جعلته يعرف القياس المنطقى الصحيح وطرق الاستدلال والتعليل ودقائق المعانى وفرق ما بين السبب والمسبب وما بين الجنس والنوع والفصل والخاصة وما بين الحجة والشبهة والممكن والمحال والمعقول والموهوم والبرهان الجلىّ والبرهان الخفى، مما جعل الفكر العربى يتحول إلى ما يشبه كنزا سائلا وبما لا يخصى ولا يستقصى من الخواطر والمعانى.
ومن المؤكد أن التعبير عن كثير من هذه المعانى والخواطر لم يكن مألوفا للعربية، غير أنه قيّض لها من نابهى المتكلمين والكتّاب والمترجمين من مدّ طاقتها وجعلها تسيغ تلك الخواطر والمعانى دون دخول أى ضيم عليها من شأنه أن يمحو طوابعها أو يجور على خصائصها ومقوماتها، بل لقد أخذت تونق فى أثناء هذا التحول العقلى والحضارى وما صحبه من تراكيب وصيغ مستحدثة لا عهد لها بها سواء فى المجال العلمى والفلسفى أو فى المجال الأدبى الخالص.
ولم تقف المسألة عند احتفاظها بالقوالب العربية وأوضاعها اللغوية وتيسير هذه القوالب والأوضاع وتذليلها للمعانى العلمية والفلسفية العميقة وأدائها بخفيات حدودها ورسمها رسما محددا دقيقا، بل امتدت إلى استحداث أسلوب مولد جديد، أسلوب يحتفظ للغة بكل مقوماتها، كما يحتفظ بالوضوح والتجافى عن الألفاظ الغامضة والمعانى المبهمة، بل إنه ليحرص على الأداء البليغ، بحيث يروق المتكلم والكاتب والمترجم والسامع بعذوبة منطقه، بل بحيث يلذّ الآذان حين تستمع إليه كما يلذ العقول والقلوب.
وهو أسلوب قام على هجر كثير من الألفاظ البدوية الحوشية الجافية التى تنبو على ذوق أهل الحاضرة كما قام على الارتفاع عن الألفاظ العامية المبتذلة، مع العناية بفصاحة اللفظ وجزالته ورصانته والملاءمة الدقيقة بين الكلمة والكلمة فى الجرس الصوتى. وبذلك لم يقف عند الأداء الفصيح فحسب، إذ اتخذ لنفسه أصولا بيانية تشيع فيه الرونق والجمال، مما جعل جهابذته يتساءلون طويلا عن البلاغة، وهو سؤال يلقانا فى جميع البيئات وتلقانا معه أجوبة كثيرة.