للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والطريف أنهم لم يكتفوا فى ذلك بما قد يكشفونه ببصائرهم الحاذقة، إذ مضوا يطلبون ما عند الأمم الأجنبية من وصايا فى البيان والبلاغة سواء الفرس أو اليونان أو الرومان (١)، وحتى الهنود، إذ نجد معمّرا صاحب فرقة المعمرية من المعتزلة يتعرض لبهلة الطبيب الهندى فى عصر البرامكة يسأله عن رأى أمته فى البلاغة، فيعطيه فى ذلك صحيفة مكتوبة بالسنسكريتية، ويقول له إننى لا أحسن ترجمتها لك، لأننى لم أعالج صناعة البلاغة فأثق من نفسى بالقيام بأداء معانيها وخصائصها على الوجه الصحيح، ويلقى معمر بالصحيفة التراجمة الذين يحسنون النقل من السنسكريتية إلى العربية فينقلونها له، وقد احتفظ بها الجاحظ فى البيان (٢) والتبيين، وهى تطلب إلى الخطيب أن يلائم بين كلامه ومستمعيه وأن يحرص على الوضوح ويتجافى عن الألفاظ الوعرة والأخرى الغامضة وأن لا ينقح ألفاظه كل التنقيح إلا لمن حاز قسطا من الحكمة والفلسفة ممن خبروا الكلام والمعانى، وأن يحرص على استخدام الألفاظ المحددة البينة التى تفى بمعانيها وتؤديها أداء سليما دون زيادة أو نقص.

ومن المحقق أن المعتزلة والمتكلمين بعامة عنوا فى هذا العصر عناية واسعة بمعرفة الأصول التى تقوم عليها براعة القول، إذ كانت صناعتهم تقوم على إحسان فن الكلام، أو بعبارة أخرى فن المناظرة فى المسائل الدينية والعقيدية وما يتصل بها من بعض المعانى الفلسفية. ونستطيع أن نجد مقدماتهم فى العصر الأموى وفى مساجد البصرة والكوفة حيث كان يجتمع ممثلو الأحزاب السياسية فيتحاورون فى مسائلهم وما يتفرع عنها من المسائل الدينية ويحاول هذا أو ذاك إقناع خصمه أو قهره والغلبة عليه بالحجة القاطعة والبيان الخلاب. وما نصل إلى العصر العباسى، بل إلى أواخر العصر الأموى، حتى نجدهم يقيمون المناظرات، ويجتمع الناس من حولهم ليروا من يظفر بخصمه ويقطعه عن الكلام قطعا.

وطبيعى أن يدفع ذلك المتكلمين ومن حولهم إلى التساؤل عن البراعة فى القول والأسس التى تقوم عليها وأن ينثر المتكلمون الحاذقون فى ذلك بعض ملاحظات عن البيان والبلاغة، ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا سائلا يتعرض لمعتزلى كبير فى


(١) البيان والتبيين ١/ ٨٨.
(٢) البيان والتبيين ١/ ٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>