للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أوائل هذا العصر، هو عمرو بن عبيد، فيسأله عن البلاغة وقطبها الذى تدور عليه، ويجيبه بأنها «تخير اللفظ فى حسن الإفهام وتزيين المعانى بالألفاظ المستحسنة فى الآذان المقبولة عند الأذهان (١)». ويدور السؤال طوال العصر وتتعدد إجابات المعتزلة عليه من مثل قول العتّابى لسائل سأله عن البليغ والبلاغة، فقال له (٢):

«كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استغاثة فهو بليغ، فإن أردت اللسان الذى يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فإظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل فى صورة الحق. فقال له السائل: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع منى، واستمع إلىّ، وافهم عنى، أو لست تفهم؟ أو لست تعقل؟ فهذا كله وما أشبهه عىّ وفساد»

وواضح أن العتابى يجعل البلاغة فى التدفق البيانى دون إعادة وتكرار ودون حصر وعىّ، ودون استعانة بحشو يؤذى الذوق الحضرىّ المهذب. وتلك هى البلاغة العادية، أما البلاغة الرفيعة فهى التى ترفع الحجاب عن غوامض المعانى، وهى التى تبلغ من الحذق ما تعرض به الباطل فى صورة الحق معتمدة على خلابة اللسان وتزيين المعانى فى القلوب، والاحتيال على ذلك والتلطف له حتى يرى كأنه الحق الذى لا حق وراءه. وهو يستوحى ذلك من قدرة المتكلمين حوله فى مناظرة خصومهم وإفحامهم بالحجج الصحيحة تارة، وتارة بالحجج غير الصحيحة التى يستطيع البليغ التام الذى يتقن أبنية الأدلة والكلام أن يموهها على السامع حتى يظن أنها صحيحة صحة تامة. ولا نبالغ إذا قلنا إن صحيفة بشر بن المعتمر فى البلاغة التى احتفظ بها الجاحظ فى بيانه (٣) هى أروع ما أثر عن المعتزلة فى هذا العصر بصدد الأصول البلاغية العامة، وهو يستهلها بأن الأديب سواء كان خطيبا أو كاتبا أو شاعرا ينبغى أن يلاحظ نفسه فلا يقدم على الكلام إلا إذا كان مستعدا متهيئا تمام التهيؤ، فارغ البال ناشطا له تمام النشاط. وينصحه


(١) البيان والتبيين ١/ ١١٤.
(٢) البيان والتبيين ١/ ١١٣.
(٣) البيان والتبيين ١/ ١٣٥ والصناعتين (طبعة الحلبى) ص ١٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>