وتطّرد الرسالة على هذه الصورة من الجناسات المتلاحقة، وأكثرها يظهر فيه التصنع وأنه مجلوب لا لأداء معنى وإنما لأداء وشى الجناس، إن صح أن يسمى هذا وشيا، وما هو بوشى، بل هو ألفاظ متراصّة، قد وضعت متقابلة فكل عبارة تقابلها أخرى بعدد ألفاظها، والعدد ليس كافيا، بل لابد أن تكون موازنة لها موازنة تامة، فكلمة «شدت بنغمات السرور أطياره» توازنها كلمة «بدت على صفحات الدهور أنواره» وكلمة «تعاضدت شرائط إجابته» توازنها كلمة «ترادفت وسائط إصابته» وفى أثناء ذلك ترصّ الجناسات رصّا، فالوسائد تليها المساند، والقواعد تليها المقاعد، ويلى ذلك خالص وإخلاص وخلوص وخصوص. وكلمة «شمس سماء المحامد والفضائل» توازنها كلمة «غرة سماء الأماجد والأفاضل» وكلمة «ديباجة صفحتى الشرف والفتوة» توازنها كلمة «نتيجة مقدمتى الولاية والنبوة». وناهيك بقدرة الكاتب على استخدام المثنى فى الكلمتين السالفتين واستخراج هذا التقسيم. ونحس وكأننا لسنا بإزاء عبارات طبيعية أو شبه طبيعية، بل نحن بإزاء عبارات هندسية تقاس بالمسطرة والفرجار، وقد حشد الجناس بجميع صوره: جناس الاشتقاق والجناس الناقص، وحشد كثير من الاستعارات، ولكنها متكلفة غاية التكلف على نحو ما يلاحظ فى وسائد الثناء ومسانده وكعوب الأعراق وشعوب الأخلاق. وهذه الصورة التى يسودها التصنع كانت شائعة فى البلاد العربية وخاصة فى حقب هذا العصر المتأخرة.
[٤ - مواعظ وخطب دينية]
لا ريب فى أن المواعظ كانت مزدهرة فى مكة والمدينة طوال هذا العصر بحكم من كان فيها من الوعاظ الذين يخطبون الناس، أو يلقون عليهم المحاضرات، واعظين مذكرين بالتقوى والعمل الصالح والاستعداد لليوم الآخر، فالناس كأنهم سفر وقوف، وكل منهم ينتظر أجله، ولن ينفع أحدا إلا ما قدمت يداه. وكان يفد على المتدينتين المقدستين كثير من وعاظ العالم الإسلامى، بل كاد أن لا يفوت واعظ منهم الإلمام بالمدينتين أو على الأقل بمكة حتى يؤدى فريضة الحج، وكان كثير منهم يجاور بها أو بالمدينة، ويتحول واعظا فى الحرم المكى أو الحرم المدنى. وكم كان الأدب العربى بثرى ويغنى لو أن الوعظ فى المدينتين سجّل فى الكتب وعنى به من يحفظ عيونه. ولعله من الطبيعى أن نجد ابن ظفر الذى