للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٣ - المناظرات]

مرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الأول ما يصور اندلاع المناظرات بين المعتزلة وطوائف المتكلمين وبينهم وبين أصحاب الملل والنحل اندلاعا هيّأ لظهور كثير من كبار المناظرين فى شئون الدين والعقل كما هيأ لبسط المعانى ومدّها بذخائر جديدة من توليد الأفكار وتشعيبها والتعمق فى مساربها الخفية، وقد أسلفنا أن مجد المعتزلة سقط فى هذا العصر منذ وقف المتوكل قولهم القائل بخلق القرآن وفسح لآراء أهل السنة، وقد عضب غضبا شديدا على ممثل المعتزلة فى بلاط المعتصم والواثق من قبله، ونقصد أحمد بن أبى دؤاد.

لم يعد للمعتزلة مجدهم القديم، ولكنهم لم يتراجعوا عن الوظيفة التى ندبوا لها أنفسهم إزاء أصحاب النحل والملل، فكانوا بالمرصاد للملاحدة، ومرّ بنا كتاب الانتصار للخياط المعتزلى الذى ردّ ردّا مفحما على ابن الراوندى الملحد. وظل الجدل عنيفا بين المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، على نحو ما يصور لنا ذلك الجاحظ فى كتاباته وخاصة فى كتابه «فضيلة المعتزلة» وتلاه فى رياسة المعتزلة بالبصرة أبو يعقوب الشّحّام، وكان يعاصره فى بغداد جعفر بن حرب المعتزلى، وحكى الخياط مناظرة بينه وبين السّكاك الرافضى فى علم الله جلّ جلاله وحدوثه وقدمه وإثباته ونفيه (١)، وفى موضع آخر يحكى المناظرات التى انعقدت بين هذا الرافضى وأبى جعفر الإسكافى المعتزلى قائلا: «وهذه مجالسة مع أبى جعفر الإسكافى معروفة يعلم قارئها والناظر فيها مقدار الرجلين وفرق ما بين المذهبين (٢)». وكانت تدور فى مجالس أبى على الجبّائى المتوفى سنة ٣٠٣ مناظرات كثيرة أهمها ما دار بينه وبين ربيبه وتلميذه أبى الحسن الأشعرى المتوفى سنة ٣٢٤، وكانت ترجح كفّة الأشعرى غالبا. من ذلك مناظرتهما فى الصلاح والأصلح إذ كانت المعتزلة ومعهم أبو على الجبّائى يوجبون على الله فعل الأصلح، وقد سأله الأشعرى فى أثناء احتدام


(١) الانتصار للخياط ص ١١٠.
(٢) الانتصار ص ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>