لما فتح النورمان صقلية الإسلامية ظلوا طوال فتحهم لها يشعرون أنهم دخلاء غرباء على من فيها من المسلمين والعناصر الأخرى الصقلية الأصيلة والإغريقية والرومية وغير الرومية، وعمّق هذا الشعور فى نفوسهم أنهم لم يكونوا متحضرين وواجهتهم مدن إسلامية متحضرة فى سكانها وفى نظمها فلم يكن أمامهم إلا أن يحاولوا الانتفاع بحضارتها، غير أنهم كانوا مشبّعين بدعوات وإيحاءات من بابا روما ضد الإسلام والمسلمين لتمكين سلطان المسيحية فيها واستئصال جذور الإسلام منها، وهو ما يلاحظ على تصرفات روجّار الأول فيها، إذ أنزل بالمسلمين بها فى حكمه الذى امتد نحو ثلاثين عاما صورا مختلفة من التنكيل، وأول ما يلاحظ من ذلك أنه عمّم نظام الإقطاع فى الجزيرة، فكان يقطع أنصاره وجنوده والأساقفة والقساوسة ما يفتحه من البلدان، ويعدّ من يفلح أو يزرع تلك الممتلكات من المسلمين عبيدا يهدون مع الأرض إلى صاحب الإقطاع، على نحو ما صنع بمدينة قطانية حين فتحها، إذ جعل أهلها المسلمين عبيدا مسترقّين ومنحها إقطاعا للأسقف هناك. وكانت هذه أول ضربة أنزلها بأعدائه المسلمين. والضربة الثانية أنه قرّر على المسلمين عامة دفع جزية، وظلوا يدفعونها حتى نهاية الحكم النورمانى. والضّربة الثالثة أنه أسكن الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد منهم -كما يقول ابن الأثير-حمّاما خاصا به-ولا دكانا ولا طاحونا ولا فرنا. ويقول بعض الباحثين المعاصرين إن هذا إنما يصدق على جماعات الفلاحين أو من أحالهم الفتح مسترقين، وهو تخصيص لا يقتضيه كلام ابن الأثير. ويقول آخرون دفاعا عن الملك النورمانى روجّار الأول إنه لم يشرّد المسلمين عن مدن صقلية ولو كان يريد التنكيل بهم حقا لشردهم، وينسون أنه كان لا يستطيع تشريدهم وإخراجهم من البلاد، لأنهم كانوا الأداة التى تزرع فيها وتصنع وتنتج ولو شرّدهم لأصبحت خرابا ولجفّت ضروعها ولم يعد يجد فيها ما يحميه هو وجنده وشعبه من الجوع والمسغبة.
ومع أن ابنه الملك روجّار الثانى (٤٩٤ - ٥٤٨ هـ) وحفيده غليوم الأول (٥٤٨ - ٥٦١ هـ) كانا لا يقسوان على المسلمين قسوته ظلت فى عهدهما آثار من هذه المعاملة الظالمة للمسلمين صوّرها فى رحلته ابن جبير الذى زار صقلية فى أيام الملك غليوم الأول، إذ يقول عن مدينة مسّينى إنها:
«معمورة بعبدة الصلبان، يمشون فى مناكبها ويرتعون فى أكنافها، والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم، قد حسّنوا السيرة فى استعمالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة (جزية) فى فصلين من العام يؤدونها وحالوا بينهم وبين سعة فى الأرض كانوا يجدونها» فتملك الأرض فى مسّينى- مع سعتها-كان محرّما على المسلمين، فهم يشتغلون فى مسّينى عمّالا ولا يتحولون بحال ملاكا.