ويقول ابن جبير عن مسلمى بلرم إن لهم أرباضا (ضواحى) انفردوا بسكناها عن النصارى، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم إلا فى الأعياد، فهم ممنوعون من صلاة الجمعة.
ويحدثنا عن فتى بمسّينى كان يخفى إسلامه متسميا باسم عبد المسيح وأنه احتفى به وبمن كان معه حتى إذا لم يجد حوله من يتهمه بإفشاء سره محافظة على نفسه من النصارى سألهم عن مكة ومشاهدها المعظمة ومشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام فأخبروه وهو يذوب شوقا وتحرقا إلى مشاهدة تلك الأماكن، وغبطهم على رحلتهم إلى مشاهدتها، وقال: أما نحن فكاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا. ومما يذكره ابن جبير مما يدل على اضطهاد المسلمين وإدخالهم فى النصرانية قسرا أن فقيها حدّثه فى مدينة طرابنش أنهم ظلوا يطاردونه بمطالبته بأموال يكتنزها فى رأيهم حتى أظهر لهم أنه فارق دينه الحنيف، ولكى يقنعهم بذلك حول مسجدا له بجوار داره إلى كنيسة، فكفّوا عنه وقال إنه يكتم إيمانه! . وذكر أنه لقى زعيم المسلمين المعروف فى تلك الديار باسم ابن حجر ممدوح ابن فلاقس الشاعر الإسكندرى.
فقال له إنهم ظلوا يوالون عليه مصادرات بلغت ثلاثين ألف دينار، وما زال يتخلى عن جميع ممتلكاته وعقاراته حتى أصبح بدون مال، ومما قال له:«كنت أودّ لو أباع أنا وأهل بيتى لعل البيع يخلّصنا مما نحن فيه ونصبح فى بلاد المسلمين». ويروى ابن جبير قصة تقطّع نياط القلوب حسرة إذ يقول إن أحد أعيان الجزيرة وجّه ابنه إلى حاجّ من أصحابنا الحجاج راغبا إليه فى أن يقبل منه بنتا له عذراء صغيرة السن قد راهقت الإدراك، فإن رضيها تزوّجها، وإن لم يرضها زوّجها، ممن يرضاه لها من أهل بلده. طمعا فى التخلص من هذه الفتنة. وطاب الأب وإخوتها بذلك نفسا لعلهم يجدون يوما السبيل إلى التخلص إلى بلاد المسلمين. وتأجّر (طلب الثواب) هذا الحاج المرغوب إليه بقبول ذلك، وأعانه ابن جبير ومن معه على اغتنام هذه الفرصة المؤدية إلى خير الدنيا والآخرة، يقول ابن جبير:«وطال عجبنا من حال تؤدى بإنسان إلى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة فى القلب وإسلامها إلى يد من يغرّبها واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق إليها والوحشة دونها، كما استغربنا حال الصبيّة، صانها الله، ورضاها بفراق أهلها رغبة فى الإسلام واستمساكا بعروته الوثقى».
وهل بعد ذلك من دليل على أن النورمان عاملوا المسلمين فى صقلية بمنتهى الظلم والقسوة والعتو والبغى حتى يفارقوا دينهم الحنيف كرها، ومن عجب أن يكتب المؤرخون الغربيون أبناء عمومتهم أنهم عاملوا المسلمين بتسامح لا حد له وبعدل ما بعده عدل، فنصدقهم، وهم قد عاملوهم بوحشية ما مثلها وحشية واستذلوهم ونهبوا حريتهم التى خلقهم الله بها وأحالوهم-أو أحالوا الشطر الأكبر منهم-عبيدا مسترقين.
وازدادت هذه الوحشية ضراوة فى عهد أباطرة الألمان حين استولوا على صقلية سنة