كثر الغزل فى هذا العصر كثرة مفرطة، حتى ليمكن أن يقال إن جميع الشعراء عنوا بالنظم فيه، وهى عناية أعدّته لكى يزدهر ازدهارا واسعا، إذ تداوله أفذاذ الشعراء، وصاغوه بعقلياتهم الخصبة الحديثة وما أوتوه من قدرة على التوليد فى المعانى القديمة واستنباط كثير من الخواطر والأخيلة الجديدة. وقد مضوا يتسعون بكل صوره القديمة حتى النسيب ووصف الأطلال والديار الدارسة، فقد استبقوا هذا الوصف، وحاولوا أن يبثوا فيه طوابع فكرهم الدقيق وإحساسهم الحضرى المرهف، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل الرابع.
وقد مضى الغزل يجرى فى نفس التيارين اللذين اندفع فيهما منذ عصر بنى أمية، ونقصد تيارى الغزل الصريح والغزل العفيف، وكان التيار الأول أكثر حدة وعنفا، بسبب انتشار دور النخاسة وما كانت تموج به من إماء وقيان روميات وخراسانيات وغير خراسانيات وروميات، إماء وقيان من كل جنس، وقد أخذن يتسلطن على الحياة العباسية ويشعن فيها كثيرا من صور التحلل الخلقى، مستبدات بمكان الحرائر القديم من الشعراء. ونفس الشعراء كانت كثرتهم من الموالى الذين نبذوا التقاليد الخلقية الإسلامية والعربية، إما بعامل الزندقة والشعوبية، وإما بعامل الترف وما ينتشر معه من فساد الأخلاق. وشتان بين الغزل للصريح فى هذا العصر عند مطيع ابن إياس وأبى نواس وأضرابهما وبينه فى العصر الأموى عند عمر بن أبى ربيعة والأحوص وأمثالهما، إذ كانوا يحتفظون بغير قليل من الوقار والحشمة، أما مطيع وأبو نواس وبشار ونظراؤهم العباسيون فقد خرجوا عن كل حشمة ووقار خروجا؟ ؟ ؟ ، يكون ثورة، بل هو ثورة حقيقية، فهم يتحدثون فى غزلهم عن غرائزهم