للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوعية فى غير تعفف ولا حياء ولا كرامة، وقد استحدث كثيرون منهم-باستثناء بشار-ضربا جديدا من هذا الغزل الصريح، وهو الغزل بالغلمان، وهو يصور ما انتهت إليه حياتهم من الفساد، لكثرة الرقيق، وقد أطلقوا لأنفسهم فيه العنان لا يرعوون ولا يستحون.

وكان يجرى بجانب هذا التيار تيار الغزل العفيف، ولكن مجراه أخذ يضيق ضيقا شديدا بالقياس إلى عصر بنى أمية إذ كان يتسع حتى يشمل بوادى الحجاز وحتى تجرى أسراب منه فى مكة عند أمثال عبد الرحمن الجشمىّ الملقب بالقسّ لنسكه وفى المدينة عند أمثال عروة بن أذينة. ومن أعلامه فى البوادى قيس بن ذريح وجميل بن معمر العذرى، حيث نجد الحب النقى الطاهر الذى يملك على الشاعر كل عواطفه وأهوائه، حتى ليصبح ضربا من الهيام القوى الحادّ الذى يدفع الشاعر إلى التغنى بمحبوبته فى شعر عذب لا يخدش حياء، شعر يموج بالحرمان وحرارة العشق وشدة الظمأ الذى لا ينتهى. وطبيعى أن يضعف هذا التيار فى العصر العباسى الأول الذى قلما عرف فيه الشعراء العفة والطهر، ومع ذلك فقد بقيت له بقية عند العباس بن الأحنف وعند بعض الشعراء الذين هاموا ببعض الجوارى ثم بعن وضرب بينهم وبينهن حجاب صفيق، فعاشوا يتعذبون بالحب، وعاش الحب فى قلوبهم قويّا حادّا، ومن خير من يصور ذلك على بن أديم الكوفى الذى أحب جارية تسمى «منهلة» منذ صغرها، حتى إذا أدركت باعها أهلها لبعض الهاشميين، فطار لبه، وبكاها بكاء حارّا بمثل قوله (١):

صاحوا الرحيل وحثّنى صحبى ... قالوا الرواح فطيّروا لبّى

لا صبر لى عند الفراق على ... فقد الحبيب ولوعة الحبّ

ويقول أبو الفرج: «له حديث طويل معها فى كتاب مفرد مشهور صنعه أهل الكوفة لهما، فيه ذكر قصصهما وقتا وقتا وما قال فيها من الأشعار، وأمرهما متعالم عند العامة» وفيها يقول (٢):

يا نصب عينى لا أرى ... حيث التفتّ سواك شيّا


(١) أغانى (طبع دار الكتب) ١٥/ ٢٦٧.
(٢) أغانى ١٥/ ٢٦٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>