ألم تر أنّ الدهر يقرى أهيله ... هموما وأن العيش صار منكّدا (١)
فما حلّ قوم فيه إلا بفجعة ... وأنت لأخرى فيه منتظر غدا
وكم قد رأينا من عزيز مشرّف ... يبيت مقرا فى القباب ممهّدا
أتته المنايا وهو فى حين غفلة ... فأضحى ذليلا فى التّراب موسّدا
وفيم تعلق الناس بالدنيا؟ إن الدهر لا يزال فيها يقرى الناس-ويطعمهم-هموما هما من بعد همّ، وقد صار العيش فيها نكدا كله، وهل أحد فيها إلا أصابته فجعة أو مصيبة موجعة من موت صديق أو قريب، وإن الكأس التى ذاقوها ليذوقها كل شخص بدوره، وكم قد رأينا من عزيز له شرف لا يدانيه شرف يترك ذلك كله حين يوافيه القدر إلى قبر ممهد بين القبور، وإنه ليموت على حين غفلة من أهله وأصفيائه، ويدفن فى التراب ويتوسّده ويصبح فيه أسيرا ذليلا لا شرف ولا طنافس، ولكن تراب بجانبه تراب. وقال مبتهلا إلى ربه فى ختام قصيدة له طويلة:
أجرنى من عذابك واعف عنّى ... وكن لى منك يا أملى مجيرا
فإنى قد كبرت ورقّ عظمى ... وجئت إلى فنائك مستجيرا
فهو لا يخاف الموت ولا يرهبه، ولذلك لا يعد المشيب نذيرا له بل بشيرا، إذ سيلقى ربه، وعاش حتى توفى فى السابعة والثمانين من عمره.
[(ب) شعراء التصوف]
مر بنا فى الفصل الأول كيف أخذت تنشط حركة الزهاد والنساك فى القيروان وتونس وغيرهما من بلدان الثغور على الساحل التونسى منذ أواخر القرن الثانى للهجرة، إذ بنى بجوار هذه الثغور رباطات-وتسمى هناك محارس-للمجاهدين فى سبيل الله ضد القراصنة وكانت أشبه بحصون كبيرة إذ كان بعضها يبلغ نحو ثلاثين غرفة ومعها مسجد وحمامات وأحواض مياه، وكثيرا ما كان يلحق بها إسطبل للخيل حتى يتمرن العبّاد فيها والناسكون على الفروسية ولقاء العدو، وطبيعى أن كان بها بعض الأسلحة. وأعطت هذه المحارس أو الرباطات الفرصة لكى تتكون طبقات من النساك الذين وهبوا نفوسهم للنسك ولجهاد أعداء الله، وكان الفقهاء-حتى كبارهم من أمثال سحنون إمام المذهب المالكى فى الفقه-ينزلونها فترات ويلقون بها محاضرات ودروسا من شأنها أن تزيد النساك نسكا وأن تدلع الحماسة فى قلوبهم لحماية الإقليم التونسى.