ويهمنا الآن جانب النسك والعبادة، وقد أخذ كثيرون فى تلك المحارس يعيشون للنسك الخالص وحاكاهم فى ذلك بعض سكان القيروان وغيرها من المدن. وكان التصوف قد أخذ يشيع فى المشرق وانبثق عنه ضرب فلسفى آمن بالحلول على نحو ما هو معروف عن الحلاج المتوفى سنة ٣٠٩ للهجرة، وظلت القيروان ومحارس الساحل التونسى بعيدة عن هذا التصوف الفلسفى، غير أنه مع الزمن أخذ يظهر فيها من استغرقوا فى الزهد والنسك، حتى ليمكن أن نسميهم متصوفة، غير أنهم متصوفة سنيون، وهو تصوف فردى فلا طريقة صوفية للمتصوف ولا مبادئ خاصة يتخذها لطريقته الصوفية مثل أبى عقال المار ذكره غلبون بن الحسن بن غلبون من أسرة الدولة الأغلبية من أبناء مدينة رقّادة بالقرب من القيروان، وكان عابدا ناسكا، وهاجر إلى مكة واختارها دار مقام له إلى أن توفى، وله أشعار زاهدة كثيرة عليها مسحة من التصوف أنشد منها المالكى فى رياض النفوس مقطوعات متعددة (١).
ومن متصوفة هذا الدور محرز بن خلف المتوفى سنة ٤١٣ وأبو الفضل بن النحوى المتوفى بعده بقرن. وسنخص كلا منهما بكلمة. ومعنى ذلك أن القيروان ظلت لا تعرف التصوف الفلسفى ولا الطرق الصوفية حتى منتصف القرن السادس الهجرى إلا ما كانت تقرؤه فى الكتابات المشرقية، وتنتشر موجة التصوف الفلسفى غربى الاقليم التونسى بمدينة بجاية إذ ينزلها أبو مدين شعيب المتوفى بتلمسان سنة ٥٩٤ هـ/١١٩٨ م وكان يشوب تصوفه شئ من النزعة الفلسفية، وتبعه كثيرون فى الجزائر والمغرب وزار تونس، وتبعه فيها غير تلميذ مثل أبى سعيد خلف بن يحيى التميمى المولود سنة ٥٥١ والمتوفى سنة ٦٢٨ هـ/١٢٣١ م. ويبدو أن عقيدته الصوفية لم ترسخ فى القيروان، وزار تونس-بعده-محيى الدين بن عربى المتصوف الأندلسى المتوفى سنة ٦٣٨ وأقام بها مدة التف فيها حوله بعض الأتباع، وأهم منه ومن أبى مدين تأثيرا فى الإقليم التونسى أبو الحسن الشاذلى المولود سنة ٥٩٣ هـ/١١٩٧ م والناشئ فيه بشاذلة إحدى بلدانه واتجه إلى التصوف مبكرا، ورحل إلى المشرق وتعرف فيه على أحد معتنقى الطريقة الرفاعية، وهى إحدى الطرق الصوفية السنية التى ظهرت بالمشرق فى القرن السادس الهجرى، وعاد إلى المغرب واتجه غربا إلى فاس ولقى فيها عبد السلام بن مشيش أحد أتباع طريقة أبى مدين، فلزمه مدة، ثم تركه إلى شاذلة وعاش بها فترة، وكان يتركها، أحيانا إلى تونس وينشر فيها دعوته، وتبعه فيها أصحاب كثيرون وكان يهاجم الخانقاهات والتسول بقوة، وتعرف على تلميذه أبى العباس المرسى وأعجب كل منهما بصاحبه. ويبدو أنه رأى أن يتسع بدعوته إلى طريقته، فصمم على مغادرة تونس إلى الاسكندرية وصحب معه