للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمذهبه فى حرية الإرادة مذهب المعتزلة ومذهبه فيما يخرج عن إرادة الإنسان من نظام الكون والوجود مذهب الجبر ولا يخالفه معتزلى فى ذلك، لأن أحدا لا يستطيع أن يقول إنه يولد باختياره أو يموت باختياره، وإنما الجدل بين الجبرية والقدرية فى إرادة الإنسان إزاء تصرفاته وهل هو حر مختار يتصرف فى أفعاله وأعماله بمشيئته أو هو كريشة فى مهب رياح القضاء والقدر تسيّره كما تريد.

واختار القدرية والمعتزلة الرأى الأول، وهو ما اختاره أبو العلاء بين ما اختاره من الأفكار الاعتزالية وقد صرّح مرارا بما قاله المعتزلة من تنزيه الله عن التجسيد والشبه بالمخلوقات:

ولعل ما أسلفنا من الحديث يوضح فى إجمال كيف كان أبو العلاء فيلسوفا إسلاميا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وكيف أن فلسفته كانت تقوم على تشاؤم حاد يردّ إلى فقده لبصره صبيا وإلى ما أطبق على المجتمع لزمنه من شرور ومن حكم فاسد، كما تردّ إلى إحساسه العميق بآلام الإنسانية التى ملأت قلبه لوعة، مما جعله مفكرا إنسانيا عظيما. هذا جانب فى فلسفته، وجانب ثان استمدّه من الدين الحنيف وما فيه من دعوة إلى الزهد والتقشف والإيمان الصادق بالله وملائكته وكتبه وتكاليفه الشرعية واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، مع الاعتقاد بحدوث الكون وكلّ ما فيه من مادة وزمان وأفلاك وكواكب، فالله خالق الكون ومبدعه قال له: كن فكان. وجانب ثالث فى فلسفته استمده من الاعتزال وما فيه من تمجيد العقل وتقديسه، ومن وجوب العدل على الله وتنزيهه عن التجسيد، ومن الإيمان بحرية الإرادة للإنسان وأنه حر كامل الحرية فى أفعاله الشريرة الآثمة والخيّرة الطيبة.

منصور (١) بن المسلم

هو منصور بن المسلم التميمى الحلبى المعروف بالدّميك وبابن أبى الخرجين، ولد بحلب سنة ٤٥٧ وبها نشأ وحفظ القرآن كعادة لداته «اختلف إلى شوخها، وشغف خاصة بالعربية وأساتذتها، فتزود منها خير زاد، وأنس من نفسه رغبة فى تعليمها وانتقل عن حلب وسكن دمشق، وتحول بها مؤدبا يعلم الصبيان فى مسجد الرماحين وغيره، وظل فى هذا العمل يشغل به حياته حتى توفى سنة نيف وعشرين وخمسمائة. وكان يتقن العربية، مما جعله يصنف كتابا فى الرد على ابن جنى فى كتابه «إعراب الحماسة» ويقول مترجموه إنه دلّ فيه على تعمق فى العربية وجودة


(١) انظر فى منصور بن المسلم الخريدة (قسم الشام) ٢/ ١٦٩ ومعجم الأدباء لياقوت ١٩/ ١٩٤ وإنباه الرواة للقفطى ٣/ ٣٢٦

<<  <  ج: ص:  >  >>