وظنوا أن فى ذلك ما يتصل من بعض الوجوه لإنكاره-فى رأيهم للنبوات، وفاتهم أنه متابع فى تمجيده للعقل واعتزازه به للمعتزلة وقد مرت بنا فى كتاب العصر العباسى الأول أبيات بشر بن المعتمر المعتزلى الرائعة فى تمجيد العقل، وما زال المعتزلة يشيدون به حتى نفذ الجبّائى وابنه أبو هاشم إلى إثبات شريعة عقلية بجانب شريعة الوحى السماوى وهى لا تخالفها بل تشهد لها وتسندها.
وأبو العلاء يتابع الجبائى وابنه، وكان يخالفهما الأشعرى، ولذلك حمل عليه أبو العلاء فى رسالة الغفران. وكان-مثل المعتزلة-يفسح للظن، إذ الظن أساس المعرفة وأساس ما يصل إليه الإنسان من اليقين وفى ذلك يقول:
أما اليقين فلا يقين وإنما ... أقصى اجتهادى أن أظنّ وأحدسا
فمبلغ علمه الوصول إلى الظن، وهو بذلك يتفق مع المعتزلة القائلين بأن كثيرا من التكاليف العقلية والشرعية مرجعه فى الاجتهاد إلى الظن.
ويذهب بعض دارسى أبى العلاء إلى أنه كان يؤمن بالجبر مكرّرا أن الإنسان يدخل الدنيا كارها ويخرج منها كارها، يقول:
خرجت إلى ذى الدار كرها ورحلتى ... إلى غيرها بالرّغم والله شاهد
وأبو العلاء إنما كان يؤمن بالجبر فى حياته وموته ووجوده فكل ذلك يحدث بإرادة الله ولا دخل لإرادة الإنسان فيه، إذ لا نخرج إلى الدنيا اختيارا ولا نرحل عنها اختيارا، وهو ما لا ينكره عليه أحد من القائلين بحرية الإرادة للإنسان إذ يريد بها المعتزلة-وهو معتزلى مثلهم-إرادة الأعمال والأفعال، ويقدّم على ذلك دليلا قاطعا حاسما قائلا:
إن كان من فعل الكبائر مجبرا ... فعقابه ظلم على ما يفعل
وهو بذلك ينكر الجبر صراحة فيما يقترف الإنسان من كبائر، ويرتب أبو العلاء عليه-عند القائلين به-نسبة الظلم إلى الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهو بذلك يصدر عن فكرة المعتزلة القائلة بوجوب العدل على الله كما يصدر عن فكرتهم أن الإنسان حر تام الحرية فى أفعاله وتصرفاته أما ما وراء ذلك من الأعمال الكونية فخاص بالله وارادته العليا ولذلك يقول:
لا تعش مجبرا ولا قدريّا ... واجتهد فى توسّط بين بينا