فى الحيوانية وأنه يخطر بباله أنه ربما أصابه نفس المكروه بجامع الحيوانية بينه وبين الحيوان.
ولا يزال ابن مسكويه يتعمق فى الإجابة موضحا أن الشريعة لا تخرج عن مقتضى العقل بحال. ونذكر طرفا من إجابة ابن مسكويه عن مسألة خلقية سألها أبو حيان، وهى إذاعة الأسرار مهما ضرب عليها من حجب الكتمان، يقول:
«قد تبيّن فى المباحث الفلسفية أن للنفس قوتين إحداهما معطية والأخرى آخذة. فهى بالقوة الآخذة تستثيب (تسترجع) المعارف وتشتاق إلى تعرف الأخبار، وبها يوجد الصبيان أول نشوئهم محبيّن لسماع الخرافات، فإذا اكتهلوا أحبوا معرفة الحقائق. وهذه القوة هى انفعال وشوق إلى الكمال الذى يخصّ النفس. وهى بالقوة المعطية تفيض على غيرها ما عندها من المعارف، وتفيده العلوم الحاصلة لها، وهذه القوة ليست انفعالا بل فاعلة. وهاتان القوتان موجودتان للنفس بالذات لا بالعرض. فكل إنسان يحرص بإحدى قوتيه على الفعل، وهو الإعلام، وبالأخرى على الانفعال، وهو الاستعلام. . فقد ظهر السبب الداعى إلى إخراج السر، وهو أن النفس لما كانت واحدة واشتاقت بإحدى قوتيها إلى الاستعلام، واشتاقت بالأخرى إلى الإعلام لم ينكتم سرّ بتّة. وهذا تدبير إلهى عجيب، ومن أجله نقلت الأخبار القديمة وحفظت قصص الأمم، وعنى المتقدمون بتدوين ذلك وحرص المتأخرون على نقله وقراءته».
ويمضى ابن مسكويه فيذكر أن صاحب السر ينبغى أن لا يستودع إلا القادر على نفسه والقاهر لنزواتها، وأن إخراجه من جملة شهوات النفس وأن حفظه لذلك يحتاج مجاهدة شديدة. وهذه الإجابة توضح كيف كان عقل ابن مسكويه خصبا وكيف كان حافلا بالآراء الطريفة، وهو يعرضها فى أسلوب جزل مصقول ليس فيه أى صعوبة ولا أى عوج أو التواء. وقد روى ياقوت فى ترجمته نسخة وصية له طريفة يعاهد فيه الله على العفة والشجاعة والحكمة وما يتفرع عن ذلك من شيم نبيلة رفيعة.
٥ - الحريرى (١)
هو أبو محمد القاسم بن على الحريرى، كان أبوه من أثرياء «المشان»، وهى قرية قريبة
(١) انظر فى الحريرى وترجمته الأنساب للسمعانى ١٦٥ ب وخريدة القصر (قسم العراق) ٢/ ٥٩٩ ومعجم الأدباء ١٦/ ٢٦١ وابن خلكان ٤/ ٦٣ وإنباه الرواة ٣/ ٢٣ وتذكرة الحفاظ والسبكى ٧/ ٢٦٦ وشذرات الذهب ٤/ ٥٠ واللباب ١/ ٢٩٥ ومرآة الجنان ٣/ ٢١٣ والعبر فى خير من عبر ٤/ ٣٨ والنجوم الزاهرة. ٥/ ٢٢٥ وروضات الجنات ٥٢٧ ونزهة الألباء لابن الأنبارى ص ٣٧٩ وشرح الشريشى على المقامات =