للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حلبت شطرى صروف الدهر من عدم ... ومن يسار ومن صاب ومن عسل

فما بطرت لإثراء ولا حسبى ... بدت به خلّة تنتاب من خلل (١)

وكنت إما بدا لى من حلىّ عطل ... ألفيت من حلى فضلى غير ذى عطل

وشى المهنّد يبدو فوق صفحته ... يغنيه عن شية الأغماد والحلل

وهو يقول إنه طالما جرّب صروف الدهر وأحداثه من فقر وغنى ومن مرّ وحلو فلم يلحقه بطر ولا استخفاف لإثراء ولا بدا خلل فى حسبه وشرفه، وكان إذا أصابه عطل من حلىّ الغنى شعر أن حلىّ فضله يزينه. ويضرب مثلا لذلك السيف فإن الوشى الذى يزينه يبدو على صفحته مما يلمع عليها ويبرق لا على غمده وما يزدان به من بعض النقوش. والقصيدة بديعة فى كل ما يتصل بها من الألفاظ والصور والمعانى.

[(ب) الهجاء]

الهجاء من موضوعات الشعر العربى، الموغلة فى القدم، وكان أصله لعنات يستنزلها الجاهلى من آلهته على من يعاديهم من الأفراد أو من يعاديهم مع قبيلته من القبائل والعشائر. وتطور من اللعنات إلى الذم بالصفات المرذولة من مثل البخل والجبن والغدر، واستحال عند جرير والفرزدق إلى مناظرات واسعة فى أمجاد قيس وتميم وسادتهما، مما أوضحناه فى كتابنا: «التطور والتجديد فى الشعر الأموى». ومنذ العصر العباسى الأول أخذ الشعراء يتفننون فى وصف المهجو بالدناءة والقذارة، مع ما قد يذكره عنه الشاعر من فساد الأخلاق والمروق من الدين. وظل كثيرون من الشعراء-على مر العصور-يكثرون منه بحيث يمكن تلقيبهم بجماعة الهجّائين، وقد يفرضونه على حياتهم ويعيشون له، وهو ما نفتقده عند شعراء المغرب الأقصى، إذ كان الشاعر المغربى يلم به فى لحظة من لحظات غضبه ثم ينصرف عنه إما رعيا للذمام والمواطنة وإما تساميا بنفسه عنه. ويلقانا منه فى أول الأمر أهاج لبعض من كانوا يتنبئون ويثيرون مع بعض أتباعهم حروبا تدور فيها عليهم الدوائر، من ذلك قول سعيد بن هشام المصمودى فى هزيمة برغواطة مع متنبئها أبى عفير (٢):

قفى قبل التفرّق فاخبرينا ... بقول صادق لا تكذبينا

بأمر برابر خسروا وضلّوا ... وخابوا لا سقوا ماء معينا (٣)

يقولون النّبىّ أبو عفير ... فأخزى الله أمّ الكاذبينا

ألم تسمع ولم تر يوم «بهت» ... على آثار خيلهم رنينا (٤)


(١) بطرت من البطر، وهو الاستخفاف بالشئ.
(٢) النبوغ المغربى ٣/ ٢٥١.
(٣) ماء معينا: من مياه الجنة أو لعل الشاعر يريد كل مياه عذبة.
(٤) بهت: مكان المعركة.

<<  <  ج: ص:  >  >>