كان بالشام قبل الفتح الإسلامى العربى لغات متعددة وعناصر جنسية مختلفة، فقد كان بها ساميون هم سلالة الشعوب التى نزلتها قديما من أموريين وكنعانيين وفينيقيين وعبرانيين وآراميين، وكان بها عناصر من شعوب البحر المتوسط فى مقدمتهم الإغريق نزلاؤها منذ فتحها الإسكندر المقدونى سنة ٣٣٣ قبل الميلاد وخلفته بها الدولة السلوقية الإغريقية لنحو قرنين ونصف. وكان بها سلالات رومية منذ احتلّ الرومان الشرط الأكبر منها فى أواسط القرن الأول قبل الميلاد، وظلت اليونانية لعهدهم لغة الثقافة، ودعم ذلك انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى غربية عاصمتها روما وشرقية عاصمتها بيزنطة أو القسطنطينية وتبعتها الشام، وتألق فيها كما مر بنا غير شاعر ومتفلسف اتخذوا الإغريقية لسانهم وأداتهم فى التعبير الوجدانى والفكرى.
وهيأ كل ذلك لأن تتعدد اللغات فى الشام قبل الفتح العربى الإسلامى، وكان من أكثرها شيوعا اللغتان اليونانية والآرامية، ولم نذكر حتى الآن اللغة العربية. مع أن عوامل كثيرة جعلتها تتغلغل فى الشام من قديم، لا لجواره للجزيرة العربية وموقعه شمالى الحجاز وغربى بادية السماوة فحسب، بل لقيام ثلاث دول عربية على حدوده وحفافه الشرقية والجنوبية طوال ثمانية قرون أو تزيد قبل الإسلام، وهى دول الأنباط وتدمر والغساسنة. وسبق أن ألممنا بها فى فاتحة الفصل الأول، ونبسط الحديث عنها الآن بعض البسط (١). أما دولة الأنباط فقد ظهرت على صفحات
(١) انظر فى هذه الدول تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد على فى مواضع مختلفة من أجزائه وتاريخ العرب مطول لفيليب حتى (الترجمة العربية) وكذلك كتابه «تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين» ١/ ٤١٦ وما بعدها، وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان (الترجمة العربية) ص ١٣ وما بعدها وتاريخ العرب لصالح أحمد العلى الجزء الأول وكتابنا العصر الجاهلى ص ٣٣ وما بعدها.