لم أنس يوما بشلف راع منظره ... وقد تضايق فيه ملتقى الحدق
والبيض فى ظلمات النّقع بارقة ... مثل النجوم تهاوت فى دجى الغسق
وقد بدا معلما باديس مشتهرا ... كالشمس فى الجوّ لا تخفى عن الحدق
وأىّ راحته لو فاض ناهلها ... وبأسها فى الورى أشفوا على الغرق
لو صوّر الموت شخصا ثم قيل له ... أبو مناد تبدّى مات من فرق
وهو يصور فى البيت الأول ما أخذ الناس من الفزع فى أول المعركة، ويقول إن السيوف كانت تلمع وتبرق فى ظلمات الغبار وكأنها نجوم تتهاوى فى دجى الليل، ولم يلبث أن بدا باديس وسط ظلام المعركة وكأنه الشمس لا تخفى عن الأبصار، ويتجسّد له الجود والبأس فى راحته، فلو فاضت على الورى لأشفقوا على أنفسهم من الغرق فى جوده وبأسه، وما يلبث أن ينفذ فى مديحه لباديس إلى صورة طريفة، فلو تجسد الموت شخصا، ثم قيل له هذا أبو مناد باديس لمات من الفرق والفزع، وقد علق ابن رشيق على بعض أبيات القصيدة بقوله إنها بديعة «حسنا وملاحة وإيجازا وفصاحة وليس فى ألفاظ الكتابة العذبة مثل ما أتى به ولا مستزاد عليه، ألا ترى كيف تأنق فأغرب، ونمّق فأعجب». وله مدائح رائعة فى محمد بن أبى العرب قائد باديس. وزار القاهرة وله قصيدة يتشوق فيها إلى أهلها ومتنزّهاتها البديعة، وقد توفى حوالى سنة ٤٢٠ هـ/١٠٣٠ م.
ابن (١) رشيق
هو أبو على الحسن بن رشيق، ولد بمدينة المحمدية المعروفة الآن باسم المسيلة لأب رومى من موالى الأزد سنة ٣٩٠ وكان أبوه يحترف الصياغة فعلّمه صنعته، وأحسّ الغلام بنزعة فيه إلى الأدب، فهاجر إلى عاصمة القيروان المشهورة به حينئذ سنة ٤٠٦ وأخذ ينهل من حلقات شيوخها ويختلط بالأدباء والشعراء القيروانيين، وأخذت ملكته الشعرية تتفتّح، واشتهر بجودة الخاطر وحسن القريحة، حتى إذا كانت سنة ٤١٧ وكان المعز بن باديس قد بنى لنفسه بناء فى صبرة: إحدى ضواحى المهدية، رأى أن ينشده قصيدة، ومما قاله فيها:
يا بن الأعزّة من أكابر حمير ... وسلالة الأملاك من قحطان
(١) انظر فى ترجمة ابن رشيق آخر كتابه: أنموذج الزمان فى شعراء القيروان والخريدة للعماد الأصبهانى (قسم المغرب-طبع تونس) ٢/ ٢٣٠ وإنباه الرواة ١/ ٢٩٨ ومعجم الأدباء ٨/ ١٩٠ وابن خلكان ٢/ ٨٥ وشذرات الذهب ٣/ ٢٩٧ والنتف من أشعار ابن رشيق وابن شرف للميمنى ومجمل تاريخ الأدب التونسى للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب ص ١٨٣ وديوانه بتحقيق د. عبد الرحمن ياغى.