ولقد أفادنى الفصاحة جودكم ... وأنا امرؤ حصر اللسان كليل
فعجزت عن نطق بحسن كمالكم ... وكذا سواى فما عساه يقول
والقطعة تصوره مريدا وتلميذا لشيخه محمد بن أبى بكر، وإنه ليشعر فى عمق حين يعول ويفتقر أن ثناءه على شيخه غنى ما بعده غنى ولا ثراء، ويعلن أنه يمدحه لا لعطاياه، وإنما طلبا لرضاه، فرضاه كل ما يريد من غنمه، وإنه ليحمل إليه ثراء ما بعده ثراء، كما يعلن أن جود ابن أبى بكر هو الذى حل عقدة لسانه وكان عييّا كليلا فأصبح فصيحا، ومع ذلك فإنه يعجز عن بيان كمال أستاذه، بل إنه كمال لا يستطيع هو ولا غيره تصويره. وكان ابن أبى بكر يختم صحيح البخارى مرة كل عام، ويحتفل بهذه المناسبة، وينشده الشعراء مدائح مختلفة، وينشده الدغوغى فى أحد احتفالاته:
نال البخارىّ منه ... سبحا وغوصا مرامه
فناب فى السّبح عنه ... وقام غوصا مقامه
أكرم بسوق بديع ... للمكرمات أقامه
فيه الثناء عليه ... وقفا إذا الغير سامه
فجوهر الفضل فرد ... تأبى المعالى اقتسامه
وهو يقول إن صحيح البخارى حظى منه بسبح فى أحاديثه وغوص ما يماثلهما سبح وغوص، ويقول إنه أقام للمكرمات سوقا عظيمة، جعلت الثناء وقفا عليه دون غيره ممن قد يبتغيه، إذ جوهر الفضل فرد، وتأبى المعالى أن يكون قسمة بينه وبين سواه. وعلى هذا النحو كان الدغوغى شاعر محمد بن أبى بكر وداعيته ولسانه الناطق عن ميوله وأهوائه.
البوعنانى (١)
هو عبد الواحد بن محمد البوعنانى مفتى فاس فى عهد المولى إسماعيل العلوى (١٠٨٤ هـ/١٦٧٢ م-١١٣٩ هـ/١٧٢٧ م) وهو يعد أهم حكام الدولة العلوية، وفى عهده نهض المغرب الأقصى نهضة ثقافية وأدبية، واستعادت البلاد ذكرى واقعة وادى المخازن ضد البرتغاليين فى أوائل العهد السعدى إذ آذن المحتلين الأوربيين للبلدان المغربية بحرب تسحق ضلوعهم سحقا. وأخذت تلك البلاد تسقط فى حجره وحجر المغاربة واحدة تلو أخرى، وكان أول ما حازه منها-كما تقدّم-المهدية سنة ١٠٩١ هـ/١٦٨١ م وتلتها طنجة سنة ١٠٩٥ هـ/١٦٨٤ م ثم حاز العرائش سنة ١١١١ هـ/١٦٩٩ م واستدار العام فحاز أصيلا، وكان حريّا أن يواكب هذه الفتوح قصائد حماسية وملحمية كثيرة. وربما
(١) انظر فى البوعنانى وقصيدته كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى ٣/ ٨٣٩. والنبوغ المغربى ٣/ ٢٣٢.