للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يعجب من هبوط النفس من العالم العلوى إلى العالم السّفلى ثم رجوعها إلى العالم الأول ويسأل فيم هبطت وفيم عادت؟ ويجيب إن كان فى ذلك حكمة لله جلّ شأنه تغيب عن العقول الذكية فأكبر الظن أنها هبطت لتسمع ما لم تكن تسمع ولتعلم ما لم تكن تعلم من العالم الأرضى وتقف على أسراره، بجانب ما كانت تعالم من العالم العلوى، وكأنها لم تبلغ من ذلك كل ما أرادت، فعادت وقد انقطع بها الزمان الدنيوى. عادت وقد تّمّت رحلتها فى الدنيا من شروق وما تلا الشروق من العلم بخفايا الأرض وعالمها وما انتهى إليه هذا الشروق من غروب، وكأنها فى هذه الرحلة القصيرة برق لمع، ثم طوته السحب طيا. وواضح ما تحمل القصيدة من فكرة وجود النفس قبل البدن وخلودها، متصلة فى الحالين بالعقل الكلى إلا ما كان من رحلتها القصيرة فى الأرض وخلال البدن، ومع ذلك فهى فى هذه الرحلة تحاول أن تعلم من أسرار عالمنا ما تضيفه إلى علمها بأسرار العالم العلوى.

وسرعان ما تنفك عن البدن ويصيبه الانحلال والفساد. ولعل من الخير أن نقف عند شاعرين من شعراء الحكم والأمثال، كان أحدهما يعنى بنقلها عن الفارسية وكان الثانى يعنى بوضعها ونظمها فى أشعاره، وهما أبو الفضل السكرى المروزى وأبو الفتح البستى.

أبو الفضل (١) السكرى المروزىّ

هو أحمد بن محمد بن زيد، يقول فيه الثعالبى: «شاعر مرو وظريفها، وله شعر مليح خفيف الروح كثير الملح والأمثال» ويورد بعض أشعاره، ثم يذكر أن له مزدوجة ترجم فيها أمثالا للفرس، وكأنه اختار أن ينظمها من وزن الرجز الذى خصّ به العباسيون منذ عصرهم الأول الشعر التعليمى لوفرة ألحانه وأنغامه، حتى يتلافوا ما فى هذا الشعر من نقص الأحاسيس والمشاعر، وظل ذلك ثاتبا طوال العصور التالية إلا ما ندر. فقد تعارف الشعراء على اختيار الرجز لنظم المعلومات والمعارف والحكم والخبرات، واتبعوا ما أحدث العباسيون الأول فى الرجز من تغيير القافية فيه من بيت إلى بيت، مع الاحتفاظ بها فى كل شطرين متقابلين بحيث يصبح الشطر فى واقع الأمر وحدة الأرجوزة المزدوجة، فهى تتألف من شطرين شطرين، وكل شطرين يتحدان فى قافيتهما. ويقف الثعالبى عند مزدوجة لأبى الفضل ترجم فيها طائفة كبيرة من أمثال الفرس، ويورد منها ثلاثة عشر بيتا من مثل قوله:


(١) انظر فى ترجمة أبى الفضل السكرى اليتيمة ٤/ ٨٧ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>