للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والورقاء: الحمامة كنى بها عن النفس. وهو يصوّرها تهبط من عالمها الرفيع أو الأرفع، عالم العقول المجردة أو العقول الكلية، الذى نجد فيه سعادتها وكمالها، ولذلك هى تهبط منه شاعرة بغير قليل من العزة والشرف، محجوبة عن كل حسّ، ومع ذلك تسفر للعقول فتدركها دون أن تبصرها، وتنزل فى البدن كارهة لأنه ليس من جنسها، غير أنها تأنس له مع الأيام، حتى إذا فارقته توجعت له وتفجعت عليه، مع أنه بدونها خراب بلقع مقفر. وكأنما نسيت عهودها بعالمها العلوى لأنسها لهذا الجسد الفانى الذى هبطت إليه من مركزها الرفيع وعشقته، عشقت مشخصّاته الأرضية التى عبر عنها بالثقل وبذات الأجرع، وغدت تحنّ إلى دياره ومعالمه وطلوله حنين الشعراء لمعشوقاتهم، ويمضى قائلا:

تبكى وقد نسيت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمى ولما تقلع

وتظل ساجعة على الدّمن التى ... درست بتكرار الرياح الأربع

حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع

وغدت مفارقة لكلّ مخلّف ... عنها حليف التّرب غير مشيّع

هجعت وقد كشف الغطاء وأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجّع

وغدت تغرّد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كلّ من لم يرفع

فهى تحنّ الى عهودها القديمة وتبكى بدموع غزار الدّمن أو أجزاء البدن التى توشك على الفساد والانحلال، حتى إذا أوشكت أن تفارق جسدها إلى عالمها الأعلى، بل حتى فارقته فعلا، فارقت البدن الفانى، عادت إليها سكينتها واستراحت، إذ كشف لها الغطاء وأبصرت ما لا تدركه العيون التى ألمّ بها النوم، وغدت تغرّد فرحة، فقد عادت إلى عالمها وعاد لها علمها بالأشياء، العلم الكلى الشامل الذى كانت قد نسيته فى سكناها البدن، ويستمر سائلا متحيرا:

فلأىّ شئ أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع

إن كان أهبطها إلاله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الّلوذعى

إذ عاقها الشّرك الكثيف فصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح الأربع

فهبوطها-لا شكّ-ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع

وتعود عالمة بكل خفيّة ... فى العالمين فخرقها لم يرقع

وهى التى قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع

فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع

<<  <  ج: ص:  >  >>