للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الشعراء يضمّنون قصائدهم وأشعارهم كثيرا من الحكم، ومن خير من يمثل ذلك الطّغرائى فى لاميته المسماة لامية العجم، وهى تغصّ بالحكم والأمثال منذ مطالعها، ونكتفى بسرد طائفة من طرائفها على هذا النمط:

حبّ السلامة يثنى همّ صاحبه ... عن المعالى ويغرى المرء بالكسل

أعلّل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

تقدّمتنى أناس كان شوطهم ... وراء خطوى إذ أمشى على مهل

وإن علانى من دونى فلا عجب ... لى أسوة بانحطاط الشمس عن زحل

أعدى عدوّك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل (١)

وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعوّل فى الدنيا على رجل

وأكبر الظن أن الطغرائى لم ينقل شيئا من هذه الحكم عن الفرس إنما هى ثمرة تجاربه وخبرته بالدنيا وبالناس من حوله.

ونمت الفلسفة فى هذا العصر نمواّ واسعا، ونمت معها علوم الأوائل على نحو ما مرّ بنا فى الفصل الثانى، وظهر كثير من المتفلسفة أمثال ابن سينا وله أشعار تتّشح بشئ من تفلسفه قليلا أو كثيرا وأثرت له رباعيات فارسية وأشعار عربية فى الزهد والحكمة وبعض مسائل طبية وفلسفية، وأهم تلك الأشعار وأشهرها قصيدته العينية عن النفس، وهى تصوّرها فى عالمها العلوى الذى كانت تحيى فيه قبل اتصالها بالبدن حين يتخلّق فى الرحم، وفى عالمها السّفلى حين تمّ هذا الاتصال بالجسد. وهو اتصال تقدم عليه وهى كارهة، وتظل فى أثنائه متشوقة إلى عالمها العلوى، مع ما حدث لها فيه من ألفة، ولذلك تنفصل عنه كارهة كما اتصلت به كارهة، يقول (٢):

هبطت إليك من المحلّ الأرفع ... ورقاء ذات تعزّز وتمنّع

محجوبة عن كلّ مقلة ناظر ... وهى التى سفرت فلم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهى ذات تفجّع

أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع

وأظنّها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بها ثاء الثّقيل فأصبحت ... بين المعالم والطّلول الخضّع


(١) دخل: خبث ومكر
(٢) انظر العينية فى طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة (نشر دار مكتبة الحياة-بيروت) ص ٤٤٦ وقارن بابن خلكان ٢/ ١٦٠

<<  <  ج: ص:  >  >>