للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«الصديق لفظ على الألسنة موجود، ومعناه فى الحقيقة مفقود، فهو كالكبريت الأحمر، يذكر ولا يبصر، أو كالعنقاء والغول، لفظ يوجد بلا مدلول. وهذه شيم غالب أبناء الزمان، من الأخلاء والإخوان، فمثلهم. . كلمع السراب، المستحيل فيه الشراب، أو كالخيال الذى يبدو فى المنام، وهو فى الحقيقة أضغاث أحلام».

ويسوق المحبى فى نفحة الريحانة رسائل مختلفة لأبيه وجدّه، منها رسالة هزلية لأبيه كتب بها على لسان فرس إلى مفت بالقسطنطينية. وانعقدت صداقة وثيقة بين المحبى وبين عبد الغنى النابلسى الصوفى، وله يقول متوددا مثنيا مشيدا بنسكه وتصوفه وسلوكه الروحى (١):

«مولاى الذى سار فى بروج الفضل مسير الشمس، وقامت فضائله فى جسم العالم مقام الحواسّ الخمس، لا زال فى السكون والحركة، مرافق اليمن والبركة، يفرح به كل قطر ينازله، كأنه البدر والدنيا منازله، ومن شايعه مسعود يومه وغده، وله من العيش أهناه وأرغده. . أنا شعبة من دوحتك (٢)، وغصن من سرحتك (٣)، بل نبت سقته أياديك، وزهر تفتح بما أفاضته غواديك» (٤).

ويطبع نثر الرسائل الشخصية حينئذ بنفس الطوابع التى رأيناها فى أيام المماليك، فهو يعتمد دائما على السجع، ويوشى بالبديع ومحسناته.

[٣ - المقامات]

كان لبديع الزمان الهمذانى فضل السبق الى استحداث فن المقامات فى العربية، وقد بناه على أقاصيص تصور حياة أديب متسول لا يزال يحتال على سامعيه بعباراته المسجوعة الرشيقة كى يسبغوا عليه شيئا من عطائهم يعينه على سدّ حاجاته فى الحياة. وجعل له راوية يتابعه ويقص حكاياته وأخباره من بلدة إلى أخرى. وتبعه الحريرى فأوفى بهذا الفن على الغاية، سواء من حيث جمال القصّ فيه أو من حيث جمال الحوار بين الراوى والأديب المتسول أو بين الأديب وبين من يعرض عليهم أفانين بلاغته. وطبيعى أن لا تعرف الشام-مثل بقية البلدان العربية-المقامات قبل بديع


(١) نفحة الريحانة ٢/ ١٣٩
(٢) الدوحة: الشجرة الكبيرة المتشعبة
(٣) السرجة: الشجرة الطويلة العظيمة
(٤) الغوادى: السحب

<<  <  ج: ص:  >  >>