للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«بلغنى انهداد الطود الشامخ، وزوال الجبل الراسخ، الذى بكته السماء والأرض، وقابلت فيه المكروه بالندب وذلك فرض، فشرقت (١) أجفان المملوك بالدموع، وأحرق قلبه بين الضلوع، فالعلوم تبكيه، والمحاسن تعزّى فيه، والأقلام تمشى على الرءوس لفقده، والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده. . ولا خاصّ إلا حزن قلبه، ولعامّ إلا طار لبّه».

وكان يجنح فى نثره وشعره إلى استخدام المصظلحات العلمية، وقد تصنع فى هذه القطعة القصيرة لحشد المصطلحات الفقهية: المكروه والندب والفرض، وأيضا فإنه كان يعنى بجلب صور مختلفة من التوريات، وواضح أنه ورّى هنا بالمصطلح الفقهى: الندب عن معناه الحقيقى وهو بكاء المتوفى وتعداد محاسنه. وجعل الأقلام تمشى على رءوسها حزنا وهى فعلا تمشى على رءوسها أو بعبارة أخرى تكتب برءوسها، فاستغل ذلك فى تعزيته.

ولابن حجة الحموى رسالة يصف فيها سكّينا أهداها إليه بعض أصدقائه جاء فيها قوله (٢):

«الملوك ينهى وصول السكّين التى قطع بها أوصال الجفا، وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفا، وتالله ما غابت إلا وصلت الأقلام من تقشيرها إلى الحفا. . ما شاهدها موسى إلا سجد فى محراب النّصاب (٣)، وذلّ بعد أن خضعت له الرءوس والرّقاب. . أنملة صبح تقمّعت بسواد الدجى، فعوّذتها ب‍ (الضحى والليل إذا سجا). . تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس، وبإقامتها الحدّ حافظت الأقلام على مواظبة الخمس».

والتكلف واضح فى القطعة، فقد ذكر الجفا أى البعد، وفكر فى سجعة معه فجاء بالشفا والحفا وأصله رقة الخف ويريد المبالغة فى تشذيب الأقلام، وكل ذلك تكلف، ولم يلبث أن جنح إلى التورية بموسى الرسول لما ذكر معه من السجود والمحراب عن موسى الحلاّق. وكان نصاب السكين أسود فحاول أن يستغل ذلك ليقتبس فاتحة سورة الضحى، وعاد إلى التورية بإقامة الحد على الجناة وهو يريد إقامة حد السكين، وورى أيضا بمواظبة الخمس إذ لا يريد المعنى المتبادر من مواظبة الصلوات الخمس، إنما يريد مواظبة الأصابع الخمس على الكتابة بتلك الأقلام.

ونمضى إلى أيام العثمانيين ونظل نقرأ رسائل شخصية متعددة فى تراجم الأدباء، من ذلك قول مرعى الكرمى المتوفى سنة ١٠٣٣ للهجرة فى معاتبة (٤):


(١) شرقت: غصّنت.
(٢) خزانة الأدب للحموى ص ٢٥، ٥٢٧
(٣) نصاب السكين: مقبضها
(٤) نفحة الريحانة للمحبى ١/ ٢٤٧

<<  <  ج: ص:  >  >>