فتواجد الناس بذلك، وقطعت شعور كثيرة وتاب جمع كبير، وواضح أنه عبر بالخمر عن النشوة بالعشق الإلهى، ومن غزله الصوفى:
تصرّمت وحشة الليالى ... وأقبلت دولة الوصال
تقاصرت عنكم قلوب ... فياله موردا حلا لى
وهو يعبر عن فرحته الهنيئة بصلته أو اتصاله بربه، وكأنه تحقق له عالم الشهود أو عالم الفناء، فانجاب عنه الحجاب، وأضاءت مشكاة قلبه بنور ربه. وانبثقت من الشعر الصوفى منذ ابن دريد فى أوائل القرن الرابع الهجرى مدائح نبوية عطرة بالسيرة الذكية، وما نصل إلى القرنين السادس والسابع حتى يتكاثر هذا المديح ويزدهر، ونظن ظنا أنه كان للحروب الصليبية أثر فى ذلك، فقد رأى المسلمون تعظيم الصليبيين لعيسى عليه السلام واهتمامهم بمولده وحربهم للدين الحنيف وصاحبه، وعرف الشعراء أنها حرب دينية يشنّها الغرب على الرسالة النبوية ورسولها الكريم، فاستحثوا الناس للدفاع عن دينهم، بل لقد مضوا يستصرخونهم للذود عن وطنهم الإسلامى محاولين-بكل ما وسعهم-أن يحيلوهم شعلا آدمية تشوى وجوه الصليبيين وتأتى عليهم كأن لم يكونوا شيئا مذكورا. وفى الوقت نفسه مضوا يمدحون النبى الكريم بعرض سيرته وشذاها العطر ورفعوها شعارات بل لواءات، ليتجمع من حولها أبطال الإسلام والعرب ويقضوا على الصليبيين قضاء مبرما. ولم يكتف بعض الشعراء بمدحتين أو مدائح معدودة للرسول، بل نظم فى ذلك ديوانا مثل محمد بن أبى بكر بن رشيد الواعظ البغدادى فقد نظم فى مديح الرسول عليه السلام ديوانا سماه القصائد الوترية فى مدح خير البرية وهى تسع وعشرون قصيدة مقفاة على حروف المعجم.
ونختار ثلاثة من الشعراء يمثلون الزهاد والمتصوفة ومداح الرسول عليه السلام، وهم على الترتيب ابن السّراج البغدادى والمرتضى الشهرزورى والصّرصرىّ.
ابن السّراج البغدادى (١)
هو جعفر بن أحمد بن الحسين السرّاج البغدادى المقرئ المحدث الأديب، ولد ببغداد سنة ٤١٧ أو فى أول سنة ٤١٨ وقرأ القرآن وتلقن قراءاته وأقرأه سنين، وعنى بالحديث النبوى ورحل فى طلبه إلى مكة والشام ومصر، وخرّج له الخطيب البغدادى خمسة أجزاء تسمى
(١) انظر فى ترجمة ابن السراج وشعره كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب ١/ ١٢٣ والمنتظم ٩/ ١١١ ومعجم الأدباء ٧/ ١٥٣ وابن خلكان ١/ ٣٥٧.