للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلو لم نركب ثبج (وسط) البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة. فالحمد لله على أن منّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله (١)».

وطبيعى أن ينهى هذا الوعظ الذى كانت تتدفق جداوله فى المساجد الناس عن ارتكاب المعاصى وأن يدفع كثيرين دفعا إلى الزهد فى متاع الحياة وخيراتها فضلا عن قمع النفس عن الشهوات وارتكاب المآثم. وكما كان للوعاظ فضل كبير فى سريان هذه الروح كذلك كان لفقهاء الحنابلة نفس الفضل، فقد كانوا يؤلفون جمهورا كبيرا ببغداد، وكثيرا ما كانوا يثورون طالبين إلى الدولة قلع المواخير وتتبع المفسدين ومن يبيع النبيذ. وكثيرا ما نهضوا بأنفسهم فكبسوا الدور وأراقوا الأنبذة (٢) وكانت الدولة لا ترى بدا من النزول على إرادتهم، وسيرهم كما يمثلها كتاب طبقات الحنابلة لابن أبى يعلى وذيله لابن رجب تفوح دائما بشذى الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا وملذاتها، ويستحيل ذلك عند كثيرين منهم إلى أشعار زاهدة وأخرى تفيض بوجد ملتاع. وكان هذا الوجد يصل بين الزهاد والمتصوفة على نحو ما مرّ بنا آنفا فى مقطوعة واعظ ميّافارقين وزاهدها محمد بن عبد الملك. وتمتلئ كتب طبقات المتصوفة بأشعارهم الصوفية الخالصة التى يصورون فيها عشقهم الإلهى ومكابدتهم معطّلين لحواسهم وعقولهم بينما يتجلى الله فى كل الموجودات، وهم سابحون فى بحار الوجد وبين أمواجه، غارقون فى آلام حبهم وأشجانه ودموعه، على نحو ما يصور ذلك الشيخ أحمد الرفاعى صاحب الطريقة الرفاعية المشهورة فى قوله: (٣)

إذا جنّ ليلى هام قلبى بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق

وفوقى سحاب يمطر الهمّ والأسى ... وتحتى بحار بالأسى تتدفّق

وسبق أن عرضنا لشهاب الدين السّهروردىّ البغدادى فى الفصل الأول. وهو إمام صوفية بغداد ومقدمهم فى القرن السابع الهجرى، وولىّ عدة ربط للصوفية، وكان فقيها عالما واعظا، عقد مجلس الوعظ سنين، ويروى أنه أنشد يوما فى تضاعيف وعظه (٤):

لا تسقنى وحدى فما عوّدتنى ... أنى أشحّ بها على جلاّسى

أنت الكريم ولا يليق تكرّما ... أن يعبر النّدماء دور الكاس


(١) انظر رحلة ابن جبير وزيارته فيها لبغداد (طبع ليدن) ص ٢٢٠ ومصادر ترجمة ابن الجوزى مذكورة فى صفحة ٣١٨.
(٢) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ١/ ٢٤.
(٣) ابن خلكان ١/ ١٧٢.
(٤) ابن خلكان ٣/ ٤٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>