وهى قطعة صوفية رمزية إذ يشير إلى أن من أظلمت عليه الدنيا فى مطلبه الأسنى من الاتصال بربه، يلجأ إلى نجوم فهمه ومصباح قريحته وسراجها، حتى إذا بدر الدراية والمعرفة أشرق على نفسه هجر ذلك السراج وتلك النجوم وانتظر الإصباح والسّنا الوضاح فرأى عين اليقين ونهل من معين الحب الإلهى ورحيقه المصفى. وربما كان أكبر واعظ عرفته العراق فى هذا العصر ابن الجوزى المتوفى سنة ٥٩٧ وقد وصف مجلس وعظه ابن جبير سنة ٥٨٠ وصفا مسهبا قائلا «شاهدنا صبيحة يوم السبت الثالث عشر من شهر صفر مجلس الشيخ الفقية الإمام الأوحد جمال الدين أبى الفضائل عبد الرحمن بن على الجوزى بإزاء داره على الشطّ بالجانب الشرقى فى آخره على اتصال من قصور الخليفة. . وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل. . آية الزمان وقرة عين الإيمان رئيس الحنبلية والمخصوص فى العلوم بالرتب العليا إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة (يريد الوعظ) والمشهود له بالسبق الكريم فى البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام فى النظم والنثر، والغائص فى بحر فكره على نفائس الدر، فأما نظمه فرضىّ الطباع مهيارى الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقسّ وسحبان، ومن أبهر آياته وأكبر معجزاته أنه يصعد المنبر ويبتدئ القرّاء بالقراءة وعددهم نيف على العشرين قارئا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات. .
فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن فى إيراد خطبته عجلا مبتدرا، وأفرغ فى أصداف الأسماع من ألفاظه دررا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات فى أثناء خطبته فقرا. . ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. . وحدّث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر. ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقا، وذابت بها الأنفس احتراقا، إلى أن علا الضجيج وتردد النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقى ناصيته بيده فيجزّها ويمسح على رأسه داعيا له، ومنهم من يغشى عليه، فيرفع فى الأذرع إليه، فشاهدنا هولا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكّرها هول يوم القيامة،