العقلية خصبة إلى أبعد حدود الخصب، بحيث أتاحت لهم ما لا يحصى من دقائق المعانى والأخيلة.
[٣ - التجديد فى الموضوعات القديمة]
ظلت الموضوعات القديمة المألوفة من مدح وغير مدح وهجاء تسيطر على الشعر والشعراء، وكأنما كان هناك إصرار قوى أن تظل للشعر العربى شخصيته وموضوعاته وأن يظل حيّا على الألسنة مع حياة الأمة، فلا يضعف ولا يذوى عوده، بل يقوى ويزدهر، غير متحوّل عن أصوله، مهما غذّته الثقافات الفلسفية وغير الفلسفية ومهما عبّر عن الحضارة العربية الحديثة، فهو موصول دائما بقديمه، شأنه فى ذلك شأن الآداب الحية التى لا تنقطع صلتها بماضيها، مهما وقع عليها وعلى أهلها من تأثيرات حضارته وثقافته، إذ تظل متصلة بها اتصالا يمكّن لها فى التاريخ وفى الخلود. وحقّا تنعكس على موضوعات الشعر حينئذ آثار حضارية وثقافية كثيرة، ولكنها لا تحدث تعديلا فى جوهرها، فجوهرها ثابت، إنما تحدث بعض إضافات تكثر وتقل حسب ملكات الشعراء وحسب ما كانوا يتغذون به من الثقافات وما كان يداخلهم من إعجاب إزاء مظاهر الحضارة الجديدة.
وأول ما نتحدث عنه من الموضوعات المديح، ومعروف أن الشاعر الجاهلى كان يصوّر فيه المثل الخلقى الرفيع فى عصره، من الكرم والشجاعة والوفاء وحماية الجار والحلم والحزم وإباء الضيم وحصافة العقل، حتى إذا كان العصر الإسلامى أخذ الشاعر يضيف إلى هذه المثالية الدين، وخاصة إذا كان يمدح خليفة، وكانوا يسجلون أعمال الخلفاء والولاة وما ينشرون من الأمن والعدالة التى لا تطيب حياة الناس بدونها، وسجلوا أيضا مواقع القواد مع الترك وغيرهم وبطولاتهم الحربية المختلفة. وبذلك كانت المدحة فى العصرين الجاهلى والإسلامى تشتمل بما تعرض من مثاليات على أسس قويمة خلقية ودينية لتربية الشباب، كما كانت تشتمل على أعمال الدولة وأمجاد العرب الحربية. وكل ذلك اضطرم اضطراما فى المدحة عند