للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قبس من هذا الصنيع عمد ابن الرومى إلى ذم الحقد البغيض، فقال (١):

الحقد داء دفين لا دواء له ... يرى الصدور إذا ما جمره حرثا (٢)

فاستشف منه بصفح أو معاتبة ... فإنما يبرئ المصدور ما نفثا (٣)

فالحقد داء لا يمكن الشفاء منه، وما يزال جمره متقدا فى الصدور ولا يمكن إطفاؤه، ويحاول ابن الرومى أن يكتشف دواء لصاحبه، فيوصيه بالصفح والعتاب فقد ينفسان عنه بعض الشئ، ولكن أى تنفيس؟ إنه تنفيس المصدور الذى قد ينفس عنه لحظة ما ينفثه، وسرعان ما ينطوى صدره ثانية على مرضه أو قل على هذا الجمر جمر الحقد الذى يشوى صدر صاحبه شيّا. وابن الرومى فى ذلك كله متفق مع الناس جميّعا فى ذم الحقد الكريه، ولكن أليس من حقه أن يغرب عليهم كما يغرب أحيانا المعتزلة أصحاب الحجاج واللسن واللدد فى الخصومة، فيمدح لهم الحقد البشع ويحيله شيئا مستحبا لا بشاعة فيه ولا قبح، يقول (٤):

وما الحقد إلا توأم الشكر فى الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض

فحيث ترى خقدا على ذى إساءة ... فثمّ ترى شكرا على حسن القرض

ولولا الحقود المستكنّات لم يكن ... لينقض وترا آخر الدهر ذو نقض

فالحقد توأم للشكر وقرين له، وحرى بنا إذا تأملنا فى حقيقته أن نعيد النظر فيه، فإنه يستحبّ إزاء بعص الأشخاص ممن يسيئون إلى الناس، بينما يستحب الشكر إزاء من يحسنون القرض والتفضل على من حولهم ببعض ما أنعم الله عليهم.

ويلفت ابن الرومى إلى دليل قاطع يدل على أن الحقد محمود، فلولاه لضاع الوتر أو الثأر ولم يأخذ موتور حقه من واتر. وبذلك استطاع أن يخرج الحقد الذميم فى صورة حسنة محمودة، بفضل مهارته فى الحوار والجدل، وكأنه معتزلى كبير يدافع عن قضية من قضايا المعتزلة الشائكة. وكثيرون من الشعراء وراءه أفادوا على شاكلته من حوار المعتزلة ومناظراتهم، كما أفادوا من ثقافات العصر ما استحالت به ملكاتهم


(١) الديوان ص ١٣٧.
(٢) يرى: يشعل.
(٣) المصدور: المريض بذات الصدر أو الرئة.
(٤) الديوان ص ١٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>