خيله اللجم والأرسان، وما نواح الحمام إلا له، وما كان أفظع يومه، لكأنه كان يوم الحشر. كل ذلك ولا يرجع أبو الضوء إلى نفسه ويستنكف من تقديم هذا العزاء لملك نصرانى. ونتوقف قليلا لنتحدث عن محمد بن عيسى ومراثيه.
محمد (١) بن عيسى
هو أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد المنعم يقول القفطى عنه:«من أهل صقلية من أصحاب العلم بعلمى الهندسة والنجوم ماهر فيهما قيّم بهما مذكور بين الحكماء هناك بأحكامهما»، ويقول العماد نقلا عن ابن بشرون: «كاتب شاعر، بارع ماهر، مهندس، منجم، لغارب (لكاهل) الفصاحة متسنّم، فى ملتقى أولى العلم كمىّ (شجاع) معلم (معروف). ويقول إن ابن بشرون أورد من شعره ما يهز أعطاف القلوب مراحا (مرحا) ويدير على الأسماع من الرحيق المختوم راحا. ويعجب العماد بمراثيه وينقل قطعة طويلة من إحداها، وفيها يقول:
عزّ العزاء وجلّ البين والجزع ... وحلّ بالنفس منه فوق ما تسع
من لليتامى وأبناء السبيل وهم ... قد ارتووا من أياديه وقد شبعوا
بكته شمس ضحاه واختفت جزعا ... وألفيت تحت ستر للغيم تطّلع
سعوا مشاة وهم فى الزّىّ أغربة ... مسودّة من وراء النّعش تتّبع
ولم يكن لهم بالعيد من فرح ... ولا لهم فى التسلّى بعده طمع
فالعزاء فى موت هذا الشخص صعب إذ عظم فيه الجزع وحلّ بالنفس حزن لا تطيقه.
ويبكى فيه الشاعر مواساته لليتامى وأبناء السبيل والبؤساء الذين طالما أسبغ عليهم من أفضاله، ويقول إن الشمس توارت باكية وراء سحاب لتطلع على جنازته الضخمة، وقد سعت الجموع وراء نعشه تلبس السواد بعد أن كانت تلبس البياض وكأنما كانت حمائم وانقلبت غربانا، وجاء العيد سريعا فلم يفرحوا فيه ولا فزعوا إلى شئ يتسلون به، إذ غمرهم لموته حزن شديد. ويقول إن أعماله الطيبة ستفسح له فى الفردوس الأعلى:
جاءت ملائكة الرّضوان معلمة ... بأنه لجنان الخلد مرتفع
(١) انظر فى ترجمة محمد بن عيسى إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى (طبع ليبزج) ص ٢٨٩ والخريدة ١/ ٣٤ وما بعدها