للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أعدّت له أعماله غرفا ... فيها لأنفس أهل الفضل مرتبع (١)

يا فجعة لم تدع فى العيش من أرب ... وغصّة فى لهاه ليس تبتلع (٢)

أضرمت نارا على الأحشاء موصدة ... أكبادنا فى لظى أنفاسها قطع

فملائكة الرضوان نزلت لتستقبله وتأخذه إلى الرفيق الأعلى وجنان الخلد، إذ أعدت له أعماله الخيّرة بها غرفا فى عليين. ويعود على بن عيسى إلى التفجع على الميت قائلا إن الفجيعة فيه لم تدع فى الحياة من أمل فقد ماتت معه كل الآمال، وأودع موته غصصا لا يطيق أحد ابتلاعها، وقد أضرم فى الأحشاء نارا متقدة تتقطع فى لظاها الأكباد حسرة عليه. ويختار العماد من مرثية ثانية لمحمد بن عيسى مقاطع، وفيها يقول:

شهاب المنايا من سماء الرّدى انقضّا ... وركن المعالى والجلال قد انفضّا

بكته المذاكى المقربات وقطّعت ... شكائمها إذ منه أعدمت الرّكضا (٣)

وكادت سيوف الهند تندقّ حسرة ... وأجفانها تنشقّ عنها لكى تنضى (٤)

شهدنا على قرب بمشهد موته ... مشاهد لم تخط القيامة والعرضا

أعاد سرور العيد حزنا مماته ... ومبرم أمر فيه حوّله نقضا

فشهاب الموت قد انقض على هذا الميت من سماء الهلاك، وانهدم بذلك ركن المعالى والجلال، وإن الخيل الكريمة أو المكرمة لتبكى فروسيته، وقد قطعت الشكائم، إذ لم يعد يركض عليها لقتال أعدائه، وإن سيوف الهند لتندقّ حسرة عليه، وإن أغمادها لتنشقّ عنها لكى ينتضيها فارسها المغوار. ويصف الشاعر جنازته ويقول كأنها كانت يوم الحشر ازدحاما وهولا، وأعقب موته العيد فلم يعرف الناس فيه سرورا ولا استطاعوا أن يبرموا أمرا من أمورهم، إذ انتابهم حزن عميق. ويصور الشاعر مدى الخسارة فيه قائلا:

لقد مات فيه عدّة أىّ عدّة ... لنا فعدمنا كل عيش به يرضى

وأبصارنا كانت تسامى له وقد ... غدا الكلّ منا طرفه اليوم قد غضّا (٥)

وقد كان طرفى ليس يغضى على القذى ... فأضحى على أقذائه اليوم قد أغضى (٦)

فقد ماتت فى هذا الفقيد عدّة ضخمة للمسلمين فى صقلية النورمانية، إذ عدم الشاعر وغيره


(١) مرتبع: مقام طيب.
(٢) لهاة كل ذى حلق: الجزء المشرف عليه فى أقصى سقف الفم.
(٣) المذاكى: الخيل. المقربات: المعدة للركوب
(٤) أجفانها: أغمادها. تنضى: تسلّ
(٥) غضّ الطرف: خفضه
(٦) أغضى يغضى: أغمض

<<  <  ج: ص:  >  >>