للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٣ - الخطابة]

ليس بين أيدينا نصوص وثيقة من الخطابة الجاهلية، لما قلناه من بعد المسافة بين العصر الذى قيلت فيه وعصور تدوينها، ولذلك كان ينبغى أن نحترس مما رواه منها صاحب الأمالى وصاحب العقد الفريد، فأكثره أو جمهوره منحول. على أن اتهامنا لنصوصها لا ينتهى بنا إلى إنكارها على الجاهليين، بل إنه لا ينتهى بنا إلى إنكار ازدهارها كما حاول بعض الباحثين (١)، فقد كان كل شئ عندهم يؤهل لهذا الازدهار، إذ لم يكن ينقصهم شئ من الحرية، وكثرت المنازعات والخصومات بينهم والدعوة إلى الحرب مرة وإلى السلم مرة أخرى. وقد اتخذوا من مجالسهم فى مضارب خيامهم ومن أسواقهم ومن ساحات الأمراء ووفاداتهم عليهم ميادين لإظهار براعتهم وتفننهم فى المقال وحوك الكلام. وأمعفتهم فى ذلك ملكاتهم البيانية وما فطروا عليه من خلابة ولسن وبيان وفصاحة وحضور بديهة، حتى ليقول الجاحظ: «وكل شئ للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام. . عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو فى حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذى إليه يقصد، فتأتيه المعانى أرسالا (أفواجا) وتنثال عليه الألفاظ انثيالا. . وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد فى نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر. . من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب (٢)».

وكل ذلك عمل على ازدهار الخطابة فى الجاهلية، وأن تتناول أغراضا مختلفة، فقد استخدموها فى منافراتهم ومفاخراتهم بالأحساب والأنساب والمآثر والمناقب، كمنافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل إلى هرم بن قطبة الفزارى (٣) ومنافرة


(١) فى الأدب الجاهلى لطه حسين ص ٣٧٤.
(٢) البيان والتبيين ٣/ ٢٨.
(٣) أغانى (ساسى) ١٥/ ٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>