كانت صقلية جنّة من جنان العالم الإسلامى بما كانت تحمل فوق حقولها من رداء القمح الذهبى ورداءات الكروم والبرتقال ومزارع القطن الزمردية وبساتين النخيل والموز والفواكه والزهور الأرجة، والخيل الكريمة، ومعادن الذهب والفضة والكبريت والنحاس ومصانع الأقمشة والحرير المزركش. لقد كانت حديقة كبيرة فى البحر المتوسط لم يحسن الخلفاء العبيديون بعد الدولة الأغلبية القيام عليها فضلا عما تبعها من شبه جزيرة قلوريّة فى إيطاليا.
وطبيعى أن يتغنّى بهذه الحديقة الفاتنة كثير من الشعراء، ونلاحظ أن هذا التغنى تأخر نحو قرن فقد تأخر طوال حكم الدولة الأغلبية، إذ كانت فى صراع مستمر مع كثير من المدن والحصون، ومع ذلك مدّت ذراعها إلى جنوبى إيطاليا واستولت على قلوريّة. وتستولى الدولة العبيديّة على مقاليد الأمور بإفريقية التونسية وتخمد حركة الفتوح فى الجزيرة وكأنما لم تكن تعنيها فى قليل ولا كثير، حتى إذا تركت شئونها السياسية والإدارية إلى بنى أبى الحسين الكلبيين أخذت الجزيرة تشعر معهم بشئ من الاستقلال، كما أخذت تشعر بشئ من شخصيتها، وعادت لها الحماسة الإسلامية، وأخذت هذه الدولة تعنى بفتح ما تبقى من البلدان والحصون فى صقلّية وفى قلوريّة.
وتزدهر الحركة الشعرية فى صقلية لعهد هذه الدولة، وخير كتاب كنا نطلع منه على هذا الازدهار لو أنه لم يسقط من يد الزمن هو كتاب «الدرة الخطيرة فى المختار من شعراء الجزيرة» لابن القطاع على بن جعفر السعدى الذى توفى بمصر سنة ٥١٥ هـ/١١٢١ م، فقد كان يشتمل على مائة وسبعين شاعرا، وكأنه أراد أن ينافس بكتابه كتاب الأنموذج لابن رشيق الذى اشتمل على مائة شاعر فحسب، صوّر بهم الحركة الأدبية فى إفريقية التونسية، ولو أن كتاب ابن القطاع وصلنا لاستبانت الحركة الشعرية بصقلية الإسلامية تمام الاستبانة إذ قصره على تلك الحركة وحدها، ولم يدخل عليه أحدا من العصر النورمانى. وفى المكتبة التيمورية مختصر للكتاب اختيار أبى إسحاق بن أغلب، قال فى مقدمته له إنه ذكر فيه سبعة وستين شاعرا فقط،