ازدهر الدين الحنيف فى جميع أنحاء ليبيا منذ القرن الأول الهجرى، وأخذت مساجده تبنى فى كل مكان: فى الحضر والبدو، ويرمز إلى ذلك المسجد الجامع الذى بناه فاتح ليبيا العظيم عمرو بن العاص فى طرابلس أمام باب قبيلة هوارة، وتنافس ولاة طرابلس وليبيا بعده فى بناء المساجد وخاصة ولاة الدولة الأغلبية، وخلفتها الدولة العبيدية، فعنى المهدى ببناء جامعها المتسع الأعظم، وبنى ابنه القائم جامعا حسن البناء فى مدينة أجدابية. وكان الشعب يشارك فى بناء الجوامع والمساجد فاكتظت بها ليبيا، وكانت جميعا بيوتا كبرى للعبادة والنسك، وكانت حلقات الفقهاء والعلماء فيها أشبه بمدارس للتعليم والدراسة، واشتهر كثيرون فى جميع أنحاء ليبيا بأنهم كانوا زهادا فى المتاع الدنيوى وأنهم كانوا عبّادا نسّاكا ينتظرون ما عند الله من ثواب الآخرة، ويسوق المالكى فى رياض النفوس وابن الدباغ فى معالم الإيمان والتجانى فى رحلته المشهورة وأحمد النائب فى نفحات النسرين والمنهل العذب والطاهر الزاوى فى أعلام ليبيا أسماء عشرات من زهاد ليبيا ونساكها على مر القرون.
وممن نذكره من زهاد ليبيا ونساكها عبد الله الشعّاب المتوفى بعهد الأغالبة سنة ٢٤٣ للهجرة ولد بطرابلس ونشأ بها، وكان نجارا لا يأكل إلا من كسب يده، وتمّم بناء مسجد كان البناء فيه توقف، وسكنه وعاش يتعبّد لربه فيه، ونسب إليه إذ سمى بمسجد الشعاب ويقول مترجموه إنه كان من كبار الصوفية والنساك الورعين، ومن هؤلاء النساك عبد الجبار السّرتى المتوفى سنة ٢٨١ كان يختم القرآن مرة كل ليلة وختمه فى مسجده أكثر من ألف ختمة، ومنهم عبد الله بن إسماعيل البرقى المتوفى سنة ٣١٧ وكان يختم القرآن يوميا، ومنهم سعيد بن خلفون المتوفى سنة ٣٦٢ وكان من أكابر الصوفية واقفا على المعارف اللدنّية والقدسية وكان يسكن بمسجد منسوب إليه فى طرابلس، وكان للناس اعتقاد فيه حتى لقبوه بلقب المستجاب وأكثروا من الحديث عن كراماته، وكان يعاصره بطرابلس ابن زكرون على بن أحمد بن زكريا ابن الخطيب المتوفى سنة ٣٧٠ وكان يتخذ مسجد المجاز فى بلدته مسكنا ومأوى له، وكان عابدا ناسكا ورعا، وكان يعاصرهما أبو نزار خطاب البرقى المتوفى سنة ٣٧٣ وكان يعاشر الصوفية وينزع منزعهم، وكان مثل صاحبيه يسكن جامعا إلى الشرق خارج المدينة. ومن كبار الزهاد بطرابلس فى القرن الخامس الهجرى أبو الحسن السيقاطى المتوفى سنة ٤٢٠ للهجرة وكان يتعبد لربه بمسجد سيقاطة على ساحل طرابلس. وأبو مسلم مؤمن بن فراج الهوارى المتوفى