للبلاد، وعرف أن السودانيين شعب متدين ويعتنق مناهج كثير من الطرق الصوفية، فشجع أصحاب الطرق الصوفية بالقاهرة على النزول به، وأرسل مع الجيش الذى وجّه به إلى السودان ثلاثة من صفوة العلماء، وهم القاضى محمد الأسيوطيّ الحنفى والشيخ أحمد البقلى الشافعى والشيخ أحمد السلاوى المالكى «ليكون-كما يقول الدكتور عبد العزيز عبد المجيد-لكل مذهب من المذاهب الفقهية الشائعة شيخ يشرف على شئونه، وحتى لا يجبر معتنق مذهب (فقهى) على أن يلجأ فى الفتاوى والأحكام إلى شيخ من غير مذهبه». وشجع محمد على علماء الأزهر على الهجرة إلى السودان خدمة للشريعة الإسلامية هناك، وفتح أبواب الأزهر على مصاريعها للطلاب السودانيين ورتبت لرواق السناريين جراية أو بعبارة أخرى خبز لهم، وأنشئ رواق لأهل دنقلة ورواق لأهل دارفور ورواق لأهل صليح. وفى أواخر عهد محمد على سنة ١٨٤٧ للميلاد أنشئ الجامع العتيق بالخرطوم، وأريد به أن يكون مثل الأزهر جامعا لأداء فرائض الصلاة ومعهدا دينيا كبيرا يدرّس فيه جلّة من العلماء، وممن ألقى دروسه ومحاضراته الدينية فيه الشيخ إبراهيم عبد الدافع مفتى الديار السودانية والشيخ الأمين الضرير والشيخ شاكر المفتى والشيخ مصطفى السلاوى والسيد حسين المجدى والشريف المحروقى الشاذلى. ولا بد أن نشير إلى أن مصر جعلت المذهب الحنفى المذهب الرسمى للدولة وعلى رأس المحاكم الشرعية قاضيا حنفيا، وعادة يكون مصريا وظل ذلك فى عهد الفترة المهدوية وبعدها إلى سنة ١٩٤٧ للميلاد.
[(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه]
أخذت تنشأ فى عهد محمد على بالسودان مدن جديدة مثل الخرطوم وبعض مستشفيات ومنشئات عصرية، وهاجر بعض الطلاب السودانيين إلى القاهرة ليلتحق بالمدارس والمعاهد الجديدة. ويذكر رفاعة الطهطاوى فى كتابه مناهج الألباب المصرية أن محمد على اختار طائفة من ناشئتهم أدخلهم فى المدارس المصرية ليتعلموا مبادئ العلوم، ثم نقلهم إلى مكتب الزراعة ثم إلى مدرسة الألسن، وكان قصده من ذلك أن يتذوقوا طعم المعارف التمدنية، حتى إذا عادوا إلى السودان نشروها فى بلادهم. ويذكر الدكتور عبد العزيز عبد المجيد أن بعثة من الطلاب السودانيين تتألف من مائة طالب سافرو إلى مصر والتحقوا بمدرسة المبتديان.
وإذا صحّ ذلك تكون مصر قد أخذت بيد السودان لتنهض فيه سريعا نهضة علمية مثل نهضتها، ومع ذلك لا يذكر لمحمد على أنه أقام مدرسة نظامية فى السودان. وأول مدرسة تنشأ فيه أقامها خليفته عباس إذ أنشأ فيه مدرسة ابتدائية فى الخرطوم وجعل ناظرها رفاعة رافع الطهطاوى، ونراه فى كتابه مناهج الألباب المصرية يشيد بالسودانيين وملكاتهم الخصبة وحسن استعدادهم للتمدن وللعلم والتعلم، يقول:
«إن للسودانيين قابلية للتمدن الحقيقى لدقة أذهانهم، فإن أكثرهم قبائل عربية، يدل على