ذلك اشتغالهم بما ألفوه من العلوم الشرعية عن رغبة واجتهاد، ولهم مآثر عظيمة فى حسن التعلم والتعليم حتى إن البلدة إذا كان بها عالم شهير يرحل إليه من البلاد المجاورة من طلبة العلم العدد الكثير والجم الغفير، فيعينه أهل بلدته على ذلك بتوزيع الطلبة على البيوت بحسب الاستطاعة، فكل واحد من الأهالى يخصه واحد أو اثنان ويقومون بشئونهم مدة التعلم والتعليم». ويبدو أن هذه الطريقة كانت قديمة منذ عهد دولة الفونج.
وولى سعيد قصير النظر بعد عباس فأغلق المدرسة، وتولى بعده إسماعيل سنة ١٢٧٩ هـ/١٨٦٣ م فعيّن موسى باشا حمدى حكمدارا للسودان وأمره بإنشاء خمس مدارس فى عواصم المديريات: الخرطوم وبربر والأبيض وكسلا ودنقلة، وفتحت كل مدرسة أبوابها لاستقبال مائة تلميذ كى يحصّلوا-كما يقول الدكتور عبد العزيز عبد المجيد-العلوم والفنون النافعة، وأنشئت مدرسة سادسة فى سواكن. وأخذت-بعد ذلك-بعض الإرساليات التبشيرية تنشئ مدارس لها فى الخرطوم. وكان لهذه المدارس جميعا أثر واسع فى نشر الثقافة الحديثة بالسودان، إذ كانت تتأثر بالحضارة الغربية والأفكار الأوربية.
وليس كل ما بين هذا التعليم الحديث فى السودان وبين التعليم القديم فى الخلوات والزوايا والمساجد من فروق تأثره بما فى الغرب من حضارة وأفكار فإنه قام على مناهج محددة فى كل سنة لكل علم، وعلى مقررات واضحة فى كل مادة مع العناية بتعلم لغة أجنبية، بخلاف التعليم القديم، فليس فيه مناهج محددة وليس فيه انتقال من صف إلى صف، مما يقتضى تدرج التعليم، بحيث يكون لكل علم فى كل سنة مادة علمية تتلاءم مع سن الناشئ من الوجهة التربوية السديدة.
وعيّن إسماعيل جعفر مظهر بعد موسى حمدى حكمدارا سنة ١٨٧٣، وكان مثقفا ثقافة واسعة بالعلوم الدينية والأدبية، فبثّ فى مسائلها جميعا نشاطا واسعا، إذ فتح مجالسه للعلماء والأدباء يتحاورون معه ويتحاور بعضهم مع بعض فى المسائل العلمية والأدبية، وأحدث ذلك فى الخرطوم والسودان حركة علمية وأدبية خصبة وأخذ بعض الشعراء ينشرون قصائدهم فى الوقائع المصرية وكانت حينئذ جريدة مصر الكبرى. وبينما الحركة الثقافية الحديثة تنشط هذا النشاط وبينما المدارس الحديثة تخرّج للإدارة السودانية كل ما تحتاج إليه من الكتاب والمحاسبين وعمال التلغراف والموانئ إذا المهدى يقوم بثورته التى مرت بنا فيغلق كل المدارس، وينهى عن التعلق بأى صورة من صور الحضارة المادية الأوربية والتركية فى المأكل والملبس والأفراح والأحزان، فأنصاره ينبغى أن يرفضوا كل ما دخل على حياتهم من حضارة الغرب والترك ويعودوا إلى حياة الفطرة الأولى الإسلامية الخالصة. وبذلك ظلت السودان فى أيامه منذ سنة