وبجانب الكتّاب كانت هناك خلوات صغرى أشبه بالكتاتيب، وقد تكون ملحقة بالمسجد وقد تكون منفردة، وهى أيضا لتحفيظ القرآن الكريم، وقد يتخذها بعض المتصوفة للعبادة والنسك، والأكثر أن تكون كتّابا، وكانت الناشئة فى دارفور تذهب إلى الكتاتيب والخلوات فى الثلث الأخير من الليل ومعها حطب توقده، وتأخذ فى قراءة القرآن وكتابته وحفظه على ضوء ناره، كما يقول عمر التونسى فى الحديث عن دارفور برحلته إلى السودان، لأن الناشئة هناك كانت تشغل نهارا برعى الغنم والبقر.
وبعد حفظ الصبى للقرآن الكريم ينتقل إلى حلقات الدراسة بالمسجد أو بالزاوية، وكانت الزاوية تعنى بجانب العلوم الدينية، بدراسات التصوف وكتب الصوفية. أما المسجد فقلما يعنى بهذه الدراسات إنما يصب عنايته على علوم الشريعة وعلوم العربية وعلم الكلام والمنطق، وعرفت السودان المسجد مبكرة، إذ ينصّ عبد الله بن سعد بن أبى سرح فى معاهدته لأهل النوبة فى عهد الخليفة عثمان على وجود مسجد بديارهم وما يجب عليهم من رعايته وخدمته وإضاءته. وفى القرن الرابع الهجرى العاشر الميلادى بنى العرب القاطنون على النيل الأزرق مسجدا فى سوبا عاصمة علوة: المملكة المسيحية. ولا بد أن مساجد كثيرة بنيت مع انتشار الإسلام فى السودان وتغلغل القبائل العربية هناك. وكانت فى دارفور مساجد كثيرة، إذ كان فى كل بلدة مسجد وقد يكون بها جامع، وكانت الناشئة تتعلم فيه الكتابة وتتلو القرآن وتحفظه، ولكل مسجد وجامع عالم يشرف على حفظ القرآن. ولصق المسجد والجامع خلوات للطلاب يحفظون فيها القرآن ويتعلمون أحيانا العلوم الشرعية ولكل مسجد وجامع مال من السلطان ينفق عليه وعلى طلابه وعلى عالمه ومدرسيه. والمسجد من قديم بجانب استخدامه لأداء الفرائض والنوافل كان يستخدم لنشر العلوم الدينية وعلوم العربية، وكان الشيخ يجلس على رأس حلقة، ويجلس التلاميذ من حوله فيما يشبه نصف دائرة. وليس هناك طريقة واحدة فى التعليم يلتزم بها الشيوخ فقد يملون من الذاكرة والطلاب يقيدون ما يملونه، وقد يقرأ الشيخ-أو أحد طلابه-فقرة فى كتاب ثم يتناولها بالشرح والتوضيح، وقد يلقى على طلابه محاضرة مكتوبة.
[(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج]
تظهر فى السودان حركة علمية نشيطة طوال عهد دولة الفونج، وقد أرّخ لها ود ضيف الله المتوفى سنة ١٢٢٤ هـ/١٨١٠ م فى كتابه الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء فى السودان، وفيه ترجم لأكثر من مائتين وخمسين من أعلام الشريعة والعربية والتصوف، وذكرناه مرارا وتكرارا فى حديثنا عن المجتمع السودانى وما ساد فيه من نزعة صوفية، وبالمثل يمدنا بمعلومات كثيرة عن الدراسات الدينية وما نزل