للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الخامس

طوائف من الشعراء

[١ - شعراء الغربة والشكوى والعتاب]

كان كثير من سكان الإقليم التونسى يرحلون عن ديارهم إما طلبا للكسب وابتغاء الرزق وإما طلبا للعلم وابتغاء التعمق فيه وإما طلبا للجهاد فى صقلية أو فى الأندلس وابتغاء الاستشهاد فى سبيل الله، وممن غادر القيروان إلى مجاهد صاحب دانية فى شرقى الأندلس (٤٠٥ - ٤٣٦ هـ‍) للجهاد ضد نصارى الشمال، ابن الصفار السوسى، وحين دخل عليه مدحه بقصيدة يائية حكى فى فاتحتها حوار زوجته معه وقولها له: لمن تتركنى وتترك أطفالك يقول (١):

بكت وشكت واسترجعت وتوجّعت ... فظلت لها مسترجعا متباكيا

وقالت أما تنهاك أن تذكر النّوى ... نهى قد نهت عنك الصّبا والتصابيا

ومن لصغار من عيال تركتهم ... كزغب القطا يبغون طعما وساقيا

ولن يجدوا للعيش بعدك لذّة ... ولن يشربوا من بعدك الماء صافيا

فقلت لها إن الذى ليس غيره ... إله كفاهم حافظا ومراعيا

وهو يصور ساعة الوداع لزوجته وصغاره وهى تبكى وتتوجع، وهو يبكى، وتقول له ألم ينهك عقلك الذى طالما نهاك عن الصبا والتصابى. وتستعطفه بصغار فى المهد كزغب القطا لم ينبت بعد ريشهم، ولن يطيب لهم عيش بدونه، غير أن نداء الجهاد كان أقوى من نداء الأطفال فقال لها إنّي تركتهم لربى الكافى الحافظ الراعى. وكان شباب القيروان وغيرها من مدن تونس لا يزال يعدّ حقائبه للارتحال إلى المشرق للنهل من أساتذته فى مصر والحجاز والشام والعراق ولم يكن آباؤهم يقفون حجر عثرة فى طريقهم بل كانوا يشجعونهم للنهوض بهذه الرحلات العلمية، رغم ما يشعرون به من فقدهم وما يطوى فى ذلك من شوق وحنين، ومن خير ما يصور ذلك قول على الناسخ يخاطب ابنه وقد سافر إلى مصر وهو صغير السن ابتغاء العلم (٢):


(١) الأنموذج ص ٢٦٦.
(٢) الأنموذج ص ٢٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>