للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا دهر مالك لا ترثى لمكتئب ... ما بات منك خليّا قطّ من كرب

لم يكف صرفك صرفى عن ذوى ثقتى ... حتى تعقّب بالتفريق فى عقبى (١)

ابن وكان أبا لى فى محبّته ... أمسى بأرض الفلا فردا بغير أب

أمسيت فى وطنى فى مثل غربته ... يا من لمغترب باك لمغترب

والله يا ولدى المجذوب من كبدى ... للرّأى ذاك وإن أمسى به عطبى

فما الحياة إلى نفسى بمعجبة ... إن لم تجز بى أعلى السبعة الشّهب

وهو يعتب على الدهر أنه لا يبيت يوما خاليا من إحدى كربه وأنه لم يكف نوائبه صرفه عن ثقاته حتى تعقبته فى ابنه البار به فحرمته منه وكأنما ألقت به فى فلاة دون أب يرعاه، ويشعر بفراق ابنه له كأنه أمسى غريبا فى وطنه، وكأن مغتربا يبكى بدموع غزار مغتربا، ويتماسك الأب، أمام فلذة كبده، فيقول له إن رأيك فى الرحلة هو الصواب وإن كان فيه عطبى وتلفى، ويضع نصب عينيه طموحه الهائل، فالحياة لا تعجبه ولا ترضيه إلا إذا تعدّت به أعلى الشهب السيارة الساطعة. ويعلق ابن رشيق على أبيات هذا الشاعر فيقول: «هذا كلام يظهر عليه التوجع والتفجع، وتشوبه رأفة الإشفاق، ورقة الاشتياق، حتى تدرّ عليه الجفون بحلب الشئون (الدموع). وليس يخفى على أحد ممن يعرف الكلام حسن هذا التخريج والتلطف فى الاعتذار عما فعل الغلام. وإن هذا الشعر ليهوّن رزيّة من أصابه مثل هذا المصاب فى ولده، حتى يسهل على الآباء فقد الأبناء ويجسّر الغلمان على مفارقة الأوطان». وممن تلهفوا على وطنهم تلهفا شديدا زمن الدولة الصنهاجية ابن عبدون الوراق السوسى، وسنخصه بكلمة. ولعلى الحصرى الشاعر المبدع قطعة يتشوق فيها إلى القيروان وتونس حين إقامته بالأندلس، وهو فيها محزون حزنا شديدا وفيها يقول (٢):

على العدوة القصوى وإن عفت الدار ... سلام غريب لا يئوب فيزدار

وحقّ بكاء العين والقلب مسعد ... لمن بات مثلى لا حبيب ولا جار

شفى الله داء القيروانين بعدنا ... فقد مرضت للقيروانين أبصار

وكيف غناء الطّير فى غير أيكها ... وقد بعدت منها فراخ وأوكار

ألا يا بروقا لحن من نحو صبرة ... وليس لها إلا دموعى أمطار

عسى فيك من ماء الحنيّات شربة ... ولو مثل ما يوعى من الماء منقار

وهو يحيى العدوة القصوى: القيروان وديارها ويصرّح بأنه يائس من العودة بعد أن أنزل بها


(١) صرفك: نوائبك وحدثانك.
(٢) الذخيرة ٤/ ٢٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>